بين سنابل القمح اليابسة وقطيع ماشية يبحث عن ظل في أرضٍ أضناها الجفاف، تختبئ تفاصيل الأزمة السورية المتفاقمة التي تجاوزت الحدود السياسية والعسكرية لتستقر في عمق الحياة اليومية: في صحن الفلاح، في رغيف الخبز، وفي وجبة طفل لا يجد ما يسدّ رمقه. فلم تعد قضية الأمن الغذائي في سورية مجرّد ملف اقتصادي أو إحصائي، بل أصبحت مرآة تعكس حجم الخراب الذي لحق بالبنية الزراعية نتيجة عقود من السياسات المرتجلة، والنزاعات المستمرة، والتغيرات المناخية التي لم ترحم المحاصيل ولا المزارعين.
أمن غذائي هش.. نصف الشعب يعاني
بحسب تقارير صادرة عن منظمات دولية، من بينها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «فاو»، فإن وضع الأمن الغذائي في سورية ماضٍ في التدهور، ويهدد أكثر من نصف السكان الذين يعانون اليوم من انعدام الأمن الغذائي بدرجات متفاوتة. إذ تراجعت المساحات المزروعة بشكل ملحوظ، وانخفض إنتاج الحبوب في الموسم الحالي بنسبة 13% مقارنة بمتوسط السنوات الخمس الأخيرة، وبنسبة 33% بالمقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع قبل عام 2011.
وتُقدّر المنظمة إنتاج الحبوب لعام 2024 بنحو 3.4 ملايين طن فقط، ما يعكس فجوة غذائية متزايدة، في ظل غياب حلول ناجعة وخطط زراعية شاملة من قبل الجهات المعنية.
التغيرات المناخية والسياسات الحكومية.. ضربة مزدوجة
ساهمت السياسات الزراعية السابقة في إضعاف هذا القطاع الحساس. فالفلاحون حُرموا من الحوافز، وواجهوا تسعيراً مجحفاً للمحاصيل، وأُجبروا على زراعة أنواع محددة دون الأخذ برأيهم أو دراسة الجدوى الاقتصادية لكل منطقة. وتزامن ذلك مع تغير مناخي حاد، تخللته سنوات من الجفاف المتواصل بين 2006 و2008، ما أدى إلى نزوح الآلاف من سكان القرى الزراعية وتخلّيهم عن أراضيهم.
مقاربة اقتصادية
يرى الخبير الاقتصادي أسامة القاضي أن الحديث عن واقع الأمن الغذائي بدقة لا يزال مبكراً، خاصة في ظل عدم استقرار السيطرة على كامل الجغرافيا السورية. ويشير إلى أن الحكومة لم تستلم بعد إدارة مناطق الشمال الشرقي بشكل كامل، حيث تتركز أهم حقول القمح وصوامع التخزين. ويؤكد أن أي تقييم جاد يتطلب حصر كميات القمح المتوفرة، وتحديد ما تبقى من البنى التحتية الصالحة للاستثمار الزراعي.
كما يُبرز القاضي تراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي من 34% في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد إلى أقل من 16% خلال فترة حكم بشار الأسد، ما يعكس حالة من الإهمال المتواصل لهذا القطاع.
تكاليف الزراعة المرتفعة.. عبء لا يُحتمل
من جانبه، يشير الخبير الزراعي أكرم عفيف إلى أن الأزمة لا تقتصر فقط على الإنتاج، بل تشمل كلفة الزراعة نفسها. فالفلاح اليوم يشتري ليتر المازوت بأكثر من 10 آلاف ليرة سورية، ويضطر للاستدانة لتشغيل مضخات المياه ونقل العمال. وأضاف أن فارق الأسعار بين المناطق يرهق المزارعين، ففي الوقت الذي يباع فيه ليتر المازوت في بعض المناطق بـ 2000 ليرة، يتعين على الفلاحين في مناطق أخرى دفع سبعة أضعاف هذا المبلغ في السوق السوداء.
القمح في مهب الريح.. والخبز مهدد!
ورغم عدم تسجيل أزمة حادة في توفر الخبز حتى اللحظة، إلا أن المؤشرات تنذر بأن أي تراجع إضافي في إنتاج القمح قد يؤدي إلى صعوبات ملموسة في تأمين هذه المادة الأساسية. فالمساعدات التي قدمتها بعض الدول مثل السعودية وتركيا وروسيا كانت عاملاً مساعداً في سد الفجوة، لكن لا يمكن الاعتماد عليها بشكل دائم.
اقرأ أيضاً: كيف ينوي وزير الاقتصاد الجديد «اختراع سوريا»؟
نحو نهضة زراعية شاملة
يؤكد القاضي في حديث له لـ «العربي الجديد» أن تحسين الواقع الزراعي يتطلب تبني خطة متكاملة، تبدأ بإعادة تأهيل الأراضي غير المستثمرة، وتوفير الدعم للفلاحين، وإدخال التقنيات الحديثة في الزراعة والري، بالإضافة إلى إصلاح الهيئات الزراعية القديمة. ويشدّد على أهمية التعاون مع دول تمتلك خبرات متقدمة مثل الدنمارك، خاصة في مجال الثروة الحيوانية.
كما دعا إلى تطوير نوعية البذور السورية، بالتعاون مع منظمات دولية مثل «فاو»، شريطة تجاوز البيروقراطية والفساد الذي عرقل المشاريع التنموية لعقود.
الخروج من عنق الزجاجة
ختاماً، وفي ظل هذا المشهد القاتم، لا يزال هناك بصيص أمل إذا ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية الحقيقية لإنقاذ الزراعة السورية. فهذه الأرض، التي لطالما كانت سلة غذاء المنطقة، ما تزال تملك مقومات النهوض من جديد. ووحدها السياسات الصحيحة، والدعم الفعلي للمزارعين، والتخلي عن النهج القديم، يمكن أن يعيدوا إلى سورية أمنها الغذائي ويمنحوا شعبها فرصة حقيقية للبقاء بكرامة.