في زمن تتسابق فيه الدول لتطوير أنظمة الدفع الإلكتروني وتحقيق التحول الرقمي، بدا القرار الأخير الصادر عن وزارة المالية السورية مفاجئاً، بل وصادماً لكثير من الموظفين والخبراء. فأن يتم تحويل رواتب العاملين في القطاع العام حصراً عبر تطبيق إلكتروني هو أمر قد يبدو عصرياً من حيث الشكل، لكنه يثير موجة من التساؤلات حول المضمون والجدوى، خاصة إذا ما طُبّق دون بنية تحتية متينة، أو إشراك فعلي للمواطن في القرار.
إذ أعلنت وزارة المالية عن بدء تنفيذ قرار تحويل الرواتب حصرياً عبر تطبيق «شام كاش» اعتباراً من الشهر القادم، وهو ما يعني وقف أي وسيلة أخرى لاستلام الرواتب، سواء كانت نقداً أو عبر وسائل تقليدية. وبينما استحسن البعض القرار على أمل أن تنتهي «طوابير الأجور»، أثار هذا القرار بالمقابل جدلاً واسعاً بين الموظفين والمهتمين بالشأن الاقتصادي، في ظل غياب توضيحات رسمية كافية حول مبررات هذه الخطوة أو ضماناتها.
هل تستحق الرواتب المنهكة كل هذا التعقيد؟
من أبرز الأصوات المنتقدة كان الخبير الاقتصادي السوري جورج خزام، الذي تساءل عن مدى فاعلية تحويل رواتب الموظفين -التي لا تتجاوز في أغلب الأحيان 40 دولاراً شهرياً- عبر تطبيق إلكتروني. خزام رأى في هذه الخطوة إعادة إنتاج لازدحام الطوابير، حيث سيضطر الموظفون للوقوف مجدداً أمام مكاتب الحوالات لسحب رواتبهم، بدل الحصول عليها مباشرة أو عبر صرافات آلية فعّالة.
واقترح خزام حلولاً بديلة وعملية، منها تخصيص دوام مسائي للموظفين في مكاتب الحوالات، أو العمل على تشغيل الصرافات الحكومية بالطاقة الشمسية لتعمل دون انقطاع، مشيراً إلى أن هذه الإجراءات أكثر فائدة من إدخال وسيط إضافي إلى عملية قبض الرواتب.
غياب حرية الاختيار.. وعبء العمولات
انتقد خزام كذلك فرض استخدام «شام كاش» دون منح الموظف خياراً بين وسائل متعددة لقبض راتبه، سواء باستخدام تطبيقات إلكترونية أخرى مثل «سيريتل كاش» أو بالحصول عليه نقداً عبر المحاسب. ورأى أن هذا الاحتكار سيدفع الموظفين لتحمل رسوم إضافية من عمولات السحب والتحويل، ما يزيد من أعبائهم في وقت يعانون فيه أصلاً من تدني الدخل.
رشا سيروب: «توطين الرواتب يجب أن يكون عبر المصارف»
من جهتها، قدمت الباحثة الاقتصادية رشا سيروب نقداً قانونياً ومالياً للقرار، مشيرة إلى أن ما يُعرف عالمياً بتوطين الرواتب يتم عادة عبر المصارف، لا عبر منصات إلكترونية خاصة. ولفتت إلى أن «بنك الشام» الذي يُعد الضامن لتطبيق «شام كاش» ليس ضمن البنوك الخاضعة لرقابة مصرف سوريا المركزي، ما يثير تساؤلات حول مصير أموال الموظفين في حال حدوث خلل أو توقف في الخدمة.
وأشارت سيروب إلى أن الاعتماد على شركات صرافة خاصة لتسليم الرواتب، عوضاً عن المصارف الحكومية، يتناقض مع روح قانون إحداث شركات الصرافة (رقم 24 لعام 2006)، الذي حدد دور هذه الشركات بالمساندة لا بالاستبدال الكامل للبنوك. كما حذّرت من تطبيق عمولة سحب بنسبة 5 بالألف، والتي تعني ضخ ما يقارب 3 مليارات ليرة سورية شهرياً لصالح شركتين خاصتين، بدل أن تذهب هذه الأموال إلى خزينة الدولة أو البنوك العامة، ما يثير شبهة «الإثراء غير المشروع» من وجهة نظرها.
اقرأ أيضاً: اتحاد الكتّاب العرب في سوريا.. هل أصبحت الثقافة تحت الوصاية؟
واعتبرت سيروب أن تحويل رواتب العسكريين أيضاً عبر «شام كاش» سيوسع من حجم الأموال المتداولة في التطبيق، خاصة في ظل تداول العملة الأميركية داخله، بحسب ما ورد في موقعه الرسمي، ما قد يؤدي إلى مضاربات على سعر صرف الليرة السورية وزيادة الضغط على السوق حسب ما ترى.
ناشطون: من المستفيد الحقيقي؟
أما الناشط السوري بشار الحموي، فانتقد القرار من زاوية سياسية، متهماً الحكومة بتنفيذ قرارات تخدم مصالح شركات خاصة دون مراعاة للمصلحة العامة. وتساءل عن هوية الجهة المالكة للتطبيق وضمان استمرارها، معتبراً أن ما يجري يعيد للأذهان نشوء إمبراطوريات مالية كانت سبباً في إفقار السوريين في العقود الماضية.
بدوره، نبّه الناشط رامي أمون إلى الأعباء الإضافية التي ستقع على كاهل الموظف، من تكاليف نقل إلى أجور سحب وتحويل، ما سيؤدي إلى تآكل قيمة الراتب. كما أبدى شكوكاً حول قدرة «شام كاش» التقنية على التعامل مع الكثافة الكبيرة لعمليات التحويل مع بداية كل شهر، متوقعاً مشاهد ازدحام خانقة أمام مكاتب الحوالات.
تعزيز الدفع الإلكتروني وتسهيل صرف المستحقات
بمقابل هذه الانتقادات، اعتبر معاون وزير المالية لشؤون الموازنة والسياسة المالية، صالح العبد، وفي تصريح له لـ «تلفزيون سوريا» أن الخطوة تأتي ضمن خطة الحكومة لتسريع عملية الدفع الإلكتروني، وتعزيز مبدأ الشفافية، وتسهيل صرف المستحقات المالية للعاملين في القطاع العام. وأشار إلى أن الوزارات والهيئات الحكومية رفعت بالفعل القوائم التي تتضمن حسابات “شام كاش” للموظفين، مما يسهل عملية تحويل الرواتب.
وأكدت وزارة المالية أنه بالنسبة للعاملين الذين لم يتمكنوا من فتح حساب على “شام كاش” أو تنزيل التطبيق لأسباب تتعلق بكبر السن أو عدم امتلاك هواتف ذكية، فإن رواتبهم ستُصرف مباشرة عبر محاسبي الإدارة في الجهات التي يعملون بها، بعد تحويل قيمة الرواتب من حسابات “شام كاش” إلى محاسبي الإدارة المعنيين.
ختاماً، تتعالى الدعوات اليوم إلى وزارة المالية ومصرف سوريا المركزي لتقديم توضيحات رسمية شفافة حول هذا القرار. فمن وجهة نظر كثيرين لا يكفي الترويج لخطوات إلكترونية جديدة دون بنية تحتية متكاملة أو رقابة واضحة، خاصة حين تتعلق هذه الخطوات بلقمة عيش المواطنين، على أمل أن تستجيب الحكومة للدعوات وأن توضح خطوتها هذه وتريح قلوب وعقول أهل البلاد.
اقرأ أيضاً: تحقيقات أحداث الساحل السوري: بين التأجيل وآمال تحقيق العدالة