بين ركام الحرب، تقف سوريا اليوم على أعتاب مرحلة شديدة الحساسية، حيث تتقاطع فيها تحديات بناء الدولة مع تعقيدات المصالحة الوطنية. وفي خضم هذا المشهد المضطرب، أعلن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع عن نية الحكومة الحالية دراسة منح الجنسية السورية لعدد من المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا بجانب الثورة واستقروا في البلاد منذ سنوات.
وكان لموقعنا «سوريا اليوم 24» وقفة سابقة مع هذا الملف حملت عنوان «أربعة احتمالات لمستقبل مقاتلي سوريا الأجانب!» يمكنكم العودة إليها ورصد الاحتمالات التي تحدثنا عنها، والتي من بينها الاحتمال الذي نتناوله من باب التحديد في هذا المقال، استناداً إلى التطورات في هذه المسألة، والتي كانت تصريحات الرئيس الشرع الجديدة مفتاحاً لها.
بين الطموح الوطني وضغوط الخارج
منذ توليه السلطة عقب سقوط سلطة بشار الأسد، طرح أحمد الشرع برنامجاً إصلاحياً طموحاً يقوم على إنهاء عسكرة المجتمع وتوحيد السلاح تحت سلطة الدولة. وخلال مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في دمشق مطلع 2025، أكد الشرع أن «احتكار الدولة للسلاح هو حجر الزاوية لأي عملية إعادة بناء سياسي واجتماعي».
وفي سياق المقابلات الإعلامية، شدد الرئيس الانتقالي على أن دمج المقاتلين الأجانب الذين أثبتوا ولاءهم لسوريا الجديدة قد يكون خياراً أكثر أماناً من تهميشهم، محذراً من أن تجاهلهم قد يؤدي إلى تفجر بؤر توتر جديدة يستغلها المتطرفون.
معضلة تجنيس المقاتلين: جدلية الإنصاف والأمن
وفي إطار حديثه حول الأمر، اعتبر الصحفي السوري المقيم في السويد، محمد حسن العايد، أن خلفية الشرع الميدانية تمنحه أفضلية واضحة في إدارة هذا الملف الحساس، مشيراً إلى قدرته على ضبط العناصر المسلحة بفاعلية يعجز عنها الساسة التقليديون.
وأكّد العايد أن التجربة السورية مع الأجانب كانت مرة في أحيان كثيرة، لكنه أشار إلى أن هناك فئة من هؤلاء المقاتلين اقتصرت مشاركتها على قتال النظام دون التورط في جرائم، مما يفتح باب التفكير في استيعابهم ضمن مشروع بناء الدولة حسب تعبيره.
لكن، أضاف العائد أن أي خطوة في هذا الاتجاه يجب أن تكون مدروسة قانونياً وأمنياً، مشدداً على أن منح الجنسية يجب أن يتم عبر مؤسسات شرعية وتدقيق أمني صارم، لا أن يكون قراراً سياسياً منفرداً.
الموقف الدولي: شروط صارمة وتحفظات معلنة
لم تمر تصريحات الشرع دون ردود فعل خارجية. فالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أعربت عن قلقها من إمكانية إدماج مقاتلين أجانب داخل مؤسسات الدولة السورية، معتبرة أن هذه الخطوة قد تعرقل جهود رفع العقوبات ودعم إعادة الإعمار.
وحول هذا، أوضح الباحث في العلاقات الدولية طارق زياد وهبي، أن المجتمع الدولي ينظر إلى فكرة تجنيس المقاتلين الأجانب بعين الريبة، محذراً من أن أي تهاون قد يضع سوريا أمام تحديات قانونية خطيرة تتعلق بمكافحة الإرهاب. واقترح وهبي منح إقامات دائمة أو مشروطة بدلاً من الجنسية الفورية.
خطة شاملة لإدارة ملف المقاتلين الأجانب
وفي محاولة منها لاحتواء المخاوف الداخلية والخارجية، أطلقت حكومة الشرع خطة شاملة لإدارة ملف المقاتلين الأجانب. وتقوم الخطة على دمج العناصر المعتدلة التي لم تتورط في انتهاكات ضمن الجيش الوطني أو مؤسسات المجتمع المدني، مع تعليق أي ترقيات أو رتب عسكرية جديدة لحين التوصل إلى اتفاق مع الشركاء الدوليين.
بالتوازي، بدأت الحكومة بتفكيك الفصائل المسلحة وإنهاء الولاءات الفصائلية، مع إعادة بناء أجهزة الأمن على أسس وطنية خالصة.
كما تتبنى الحكومة الحالية سياسة حازمة تجاه العناصر المتطرفة عبر آليات العدالة الانتقالية ومحاكمات وطنية شفافة، مؤكدة التزامها بالتعاون مع المجتمع الدولي لمنع استخدام سوريا كملاذ جديد للمتطرفين.
اقرأ أيضاً: رسالة دمشق تكشف تفاصيل الرد على شروط واشنطن
توازن بين الداخل والخارج
ووسط الضغوط المتزايدة، تجد الحكومة الحالية نفسها مضطرة إلى تحقيق توازن معقد بين تطمين الداخل ومراعاة المخاوف الدولية. فهي بحاجة إلى مكافأة حلفاء الثورة لاحتواء الغضب الداخلي، دون أن تغامر بإثارة الشكوك الدولية التي قد تعرقل عملية إعادة الإعمار.
وتبرز العلاقات مع تركيا كعنصر حاسم في هذا السياق، حيث يُنتظر من أنقرة إنهاء أي دعم أو حماية تقدمها للمقاتلين الأجانب، والتعاون مع الحكومة السورية الجديدة في هذا الملف الحساس.
في المشهد الموازي: قسد وموقفها من المقاتلين الأجانب
من جهته، أعلن القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، التزام قواته بإخراج المقاتلين الأجانب من صفوفها تماشياً مع المطالب الدولية، بما يعزز استقرار المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
وأشار الكاتب السياسي جوان يوسف، وفي تصريح له لموقع «+963» إلى أن ملف مقاتلي قسد يختلف عن وضع المقاتلين المرتبطين بالفصائل المدرجة على لوائح الإرهاب، موضحاً أن قسد ليست مصنفة كمنظمة إرهابية دولياً، مما يجعل تسوية أوضاع مقاتليها أقل تعقيداً قانونياً على حد قوله.
سوريا بين فرصة التجديد وخطر الانتكاس
يشار ختاماً، إلى أن سوريا في هذه المرحلة الحرجة، تتعامل مع واحد من أعقد ملفاتها الانتقالية. فالنجاح في إدارة ملف المقاتلين الأجانب قد يفتح الباب أمام إعادة بناء الدولة ومصالحتها مع المجتمع الدولي، بينما أي تعثر أو سوء تقدير قد يعيد البلاد إلى مشهد الفوضى الذي تحاول الخروج منه بشق الأنفس.