يحمل الزي السوري بين خيوطه المحاكة بإتقان حكايات من ماضٍ عريق، تأخذنا في رحلة ممتعة عبر التاريخ، فمع كل عصر جديد، كان نمط اللباس يتغير رويداً رويداً، متأثراً بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تمرّ بها البلاد، مقتبساً منها بصمات مميزة، وإن بقيت الفكرة الأساسية للزي، والتي تعبّر عن أصالة الشعب وذوقه الرفيع، محتفظة بجوهرها.
تعالوا لنأخذكم معنا في جولة قصيرة نتعرف من خلالها على تغيرات الزي السوري عبر الزمن.
عناصر الزي التقليدي السوري
بدايةً وقبل أن نتحدث عن خصوصية كل زمن، لا بد من ذكر أنّ الأزياء التقليدية السورية كانت تتألف من عناصر لربّما لم تتغير كثيراً ولكن تمّت عليها تعديلات مع مرور الوقت والأحداث المختلفة.
ويتألف الزي التقليدي للمرأة السورية من عدة عناصر، أهمها الثوب الطويل الفضفاض وكان يسمى أيضاً “القميص”، والذي يتميز بنقوشه الزاهية على الصدر والأكمام، وتختلف نقوشه مع اختلاف المناطق، وفوق الثوب تُلقى “العباءة” على الكتفين، وهي رداء طويل عادةً ما يكون لونه أسود، لكنّه لا يخلو أحياناً من تطريزات أنيقة أو نقوش ملوّنة.

والحجاب أو الشيلة أيضاً، من العناصر الأساسية للزي النسائي التقليدي في سوريا، ويجمعان بين الحشمة والجمال، وتتنوع أقمشتهما بين البسيط القطني المريح، والفاخر المطرز الأنيق.
أما الرجل السوري، فيتألف لباسه التقليدي من “القفطان” أو “الجبّة”، وهما رداءان طويلان غالباً ما يكونا مصنوعين من قماش قطني خفيف، من أجل الراحة في الحركة، ومزينان بتطريزات رجولية بسيطة عند الياقة والأكمام.
وتحت هذه الأردية، يلبس الرجل السروال أو يسمى “الشروال” وهو بنطال فضفاض مريح يتم ربطه عند الخصر، يوفر راحة في الحركة وسهولة في اللباس، وعلى الرأس تُلَفُّ الكوفية الموشاة غالباً بالأبيض والأسود أو الأحمر والأبيض، وهي تراث ليس سورياً فقط بل مشترك مع أغلب البلدان العربية.
اقرأ أيضاً: من بداية خجولة إلى القمة: كيف أصبحت الدراما السورية سيدة الشاشات؟
خصوصية اللباس السوري عبر العصور
هذه العناصر التي ذكرناها هي الأساسية في اللباس التقليدي السوري، ولكن إن أردنا أن نتحدث عن كل زمن فسنلاحظ التغيرات التي اكتسبها الزي مع توالي القرون والأحداث التي مرت على البلاد.
الزي السوري في القرن الثامن عشر
على الرغم من أن سوريا قبعت تحت الحكم العثماني حوالي أربعة قرون، إذ دخل العثمانيون إليها في عام 1616، إلّا أن التأثر بالأزياء العثمانية لم يظهر على الفور، ولم تتشكل ملامحه إلّا مع بدايات القرن الثامن عشر.
فقد تأثرت الملابس حينها بالثقافة العثمانية بشكل جليّ، وابتعدت عن البساطة التي كانت تميزها، ولكنها باتت جميلة وفخمة ومصنوعة من أقمشة راقية مثل الحرير والمخمل، ومزيّنة بتطريزات دقيقة دلّت على الثراء والمكانة الاجتماعية.
كان الرجال يرتدون القفاطين والجُبب الطويلة المزخرفة بخياطة دقيقة، وكان الطربوش الأحمر، المصنوع من اللباد، قطعة أساسية تكمل المظهر كما كان البعض يرتدون سترات قصيرة فوق السراويل الفضفاضة، وأحذية مصنوعة بدقة.
أما النساء، فارتدين في ذلك الزمن ما يسمى “الإنتاري”، وهو رداء طويل ومفتوح من الأمام، يُلبس فوق سروال واسع، وكانت النسوة الغنيات يفضلن الأقمشة الفاخرة مثل الحرير والديباج والتي تزيّن بخيوط ذهبية، وتكتمل الإطلالة مع الحجاب المطرز الذي ينمّ عن ذوق رفيع.
القرن التاسع عشر
في هذه الفترة كان هناك تواجد قوي للتجار الفرنسيين والبريطانيين في سوريا، وقد جلبوا معهم تأثيرات أوربية على الأزياء السورية، فامتزج الطابع التقليدي بالعناصر الغربية، مع بقاء الأثر العثماني واضحاً.
الرجال، خاصة الأثرياء منهم، باتوا يلبسون الجلباب التقليدي مع سترات أوروبية، ومع مرور الوقت، انتشرت البدلات الغربية بين المهنيين والأطباء والطبقة المثقفة، خاصة في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب.
النساء أيضاً تأثرن بالموضة الغربية، وعلى الرغم من صمود الرداء، إلّا أنه أصبح أقصر قليلاً، ومزموماً بطريقة تظهر جمالية الجسم، وانتشرت كذلك الكورسيهات (المشدات) والتنانير الداخلية، والتي كانت النسوة تشاهدنها في مجلات الموضة الأوروبية، ومع ذلك تم تعديلها لتناسب العادات والتقاليد المحلية.
القرن العشرين
مع بداية هذه الحقبة وحتى منتصفها تقريباً، بدأت التغييرات تبدو أوضح، فالمدن السورية تأثرت أكثر بالغرب و”التحضّر”، فاستبدل الرجال القفاطين بالبدلات العصرية، والنساء ارتدين ملابس يومية مريحة مثل الفساتين بموديلاتها المتنوعة، ومع ذلك، حافظت الملابس التقليدية على وجودها، خاصة في المناسبات والمهرجانات وحفلات الزفاف.
اقرأ أيضاً: الآثار السورية: مسيرة طويلة من التهريب والتخريب
اللباس من روح المكان!
لعبت الجغرافيا دوراً في تنوع اللباس، إذ تميزت كل منطقة في سوريا بطابعها الخاص، وانعكس ذلك على الألوان والخامات وأسلوب الأزياء ليلائم طبيعة المكان وظروفه المناخية والاجتماعية.
اشتهرت دمشق بكونها مركزاً لصناعة النسيج، واشتهرت عالمياً بنسيج البروكار، وهو قماش فاخر ينسجه الحرفيون الدمشقيون على أنوالهم اليدوية بخيوط من حرير طبيعي فضية أو ذهبية، وقد شكّلت هذه الأقمشة الممتعة للنظر بتصاميمها المعقدة، جوهر الملابس الاحتفالية للنساء، وكانت غالباً ما تُطرّز بخيوط حريرية حمراء تضفي عليها لمسة راقية.
داخل البيت أو في تجمعات النسوة في المنازل، كانت المرأة الدمشقية تتباهى بأناقتها في فساتينها المتنوعة، التي كانت تُخاط يدوياً بعناية فائقة، أما خارج المنزل، فكانت ترتدي “الإزار” أو “الملاءة السوداء”، وهو زيّ يغطي الجسد بالكامل، في قطعة واحدة أو قطعتين تُعرف إحداهما بـ”البرلين” من الرأس حتى الخصر، والأخرى بـ”الخراطة” من الخصر حتى القدمين، وعلى الوجه، كانت تضع قماشة سوداء تتراوح بين الشفافة والسميكة، تُعرف باسم “منديل جورجيت”، ولكن هذه العادة بدأت تتلاشى مع مرور الزمن.
ولم يتناسَ الرجال الدمشقيون أناقتهم أيضاً، من خلال تفاصيل دقيقة حملت بين طياتها رموزاً اجتماعية وثقافية، فالطربوش، كان قطعة أساسية في اللباس الدمشقي الرجالي لفترة طويلة، وقد اختلف اسمه باختلاف طوله، فكان يعرف بـ”الطربوش التركي” عندما كان طويلاً، ثم “النمساوي” عندما أصبح أقصر.
وكان يرتدي الرجل الدمشقي القمباز، وهو الثوب الطويل الذي يشبه الجلباب، وقد تنوعت تسمياته حسب نوع قماشه، فسُميّ “صايا” إن كان حريرياً، و”سقو” إذا كان مصنوعاً من الصوف الأجنبي، أما إن كان مخططاً وطويلاً، فكان يُعرف بـ”مدربيا”.
وفوق القمباز، ارتدى الرجال “الجاكيت”، وتنوعت تسمياتها كذلك، فإن كانت بأزرار سُميّت “سترة”، أما الخالية من الأزرار كانت تدعى بـ”دامر”، وحول الخصر، كانوا يلفون الزنار أو الحزام، الذي يُطلق عليه اسم “شاملا”، وكان إذا زُيّن بالتطريز يُعرف بـ”شال”، أما الأحذية، فكانت تُعرف باسم “الكندرة”، وتُشبه الأحذية الحديثة لكنها بلا أربطة.
اقرأ أيضاً: حراق أصبعو ما قصة الأكلة الدمشقية؟
ولم تكن حلب أقل أناقةً وتميزاً من دمشق، فشوارعها القديمة شاهدة على لمستها الخاصة في عالم النسيج، وخاصة إنتاجها لقماش الإيكات، والذي ظلّ يملأ خزانات النساء والرجال حتى منتصف القرن العشرين.
صُنِع من هذا القماش المميّز، بألوانه المموجة، معاطف رائعة الجمال لا تشبه غيرها سواء من حيث الخامة أو الزخرفة، داخل ورشات حلب المحلية، وكانت المعاطف النسائية الحلبية تُزيَّن بتطريزات متقاطعة بإتقان، تبرز على منطقة الصدر والأكمام بدرزات دقيقة تشبه النقوش.
ودقة الصناع الحلبيين الذين لا يزالون يشتهرون بها حتى يومنا هذا لم تغفل أبداً عن الوجه الداخلي المخفي لهذه المعاطف، فقد كانت مزخرفة بخيوط حريرية براقة من نوع الأطلس، لا تظهر للعيان إلا لمن يرتديها.
أما في الأرياف السورية، فتباين نمط اللباس تبعاً لاختلاف المناطق، ففي الشمال، اشتُهرت التطريزات والزخارف، حمراء هندسية على أقمشة قطنية سوداء في قرى مثل سراقب، وأزهار جميلة على الأكمام والتنانير في القلمون خاصة في المناسبات الاحتفالية.

أما سكان الشرق السوري، حيث المناخ الصحراوي، ففضلوا ارتداء الملابس الواسعة والخفيفة التي توفر الراحة في مواجهة الحر والرياح والغبار، ارتدت النساء عباءات سوداء طويلة وعملية، فيما اختار الرجال “القفطان” الأبيض في الصيف والألوان الداكنة للشتاء، أما “الغترة” فكان الرجال يضعونها الرأس ويثبتونها بـ”العقال”، لتحميهم من الشمس والغبار.
وفي قرى الساحل السوري كان الرجال يرتدون “الشروال” مع قميص وسترة، ويضعون الغترة والعقال أيضاً، الذي يناسب العمل في الأرض تحت أشعة الشمس، بينما ترتدي النسوة العباءات المطرزة يدوياً، وتضع المسنّات “الطربوش” الأبيض على الرأس، وفوقه المنديل الحريري أو المصنوع بإتقان من الكروشيه، والذي أصبح اليوم من التراث ويُباع بأغلى الأثمان.
اقرأ أيضاً: ما السرّ وراء عشق السوريين لـ«صابون الغار الحلبي»؟
الزي السوري في عصر العولمة
منذ أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين وحتى يومنا، شهدت سوريا تحولات كبيرة في عالم الموضة، مع انتشار المجلات، التلفزيون، والإنترنت والانفتاح الكبير على العالم الغربي، كل هذه التغيرات ساهمت في التأثير على أذواق الناس وأسلوب لباسهم.
وفي يومنا هذا، بات الشباب يرتدون بنطلونات الجينز، القمصان ذات الأزرار والسترات، وغالباً ما يكون أسلوبهم في الأزياء بسيطاً وغير رسمي، يعكس الراحة والعملية التي فرضها العصر الحديث، وفي المناسبات الرسمية أو العمل، يختار العديد منهم ارتداء بدلات أنيقة تعكس تطور الذوق الشخصي في ظل الانفتاح على أساليب الموضة الحديثة.
أما النساء فيرتدين الفساتين والتنانير بموديلات عصرية، والجينزات والسترات المتنوعة على اختلاف ألوانها، ومع ذلك بقي الاحتشام موجوداً في بعض المناطق.
إذ يلعب الدين دوراً كبيراً في تشكيل قواعد اللباس في سوريا، وبما أن غالبية السكان فيها من المسلمين، فإن هذه المبادئ تؤثر بصورة واضحة على أنماط اللباس، والحجاب جزء أساسي في ثقافة العديد من النساء السوريات.
ترتدي غالبية النساء السوريات الحجاب، ولكن طريقة وضعه تختلف من امرأة إلى أخرى حسب التفضيلات والخلفية الدينية للعائلة، فبعضهن تختار ارتداء عباءة طويلة أو سترة فضفاضة مع بنطال، بينما تفضل أخريات أسلوباً أكثر تحرراً، وترتدي بعض النسوة أيضاً العباءة مع النقاب الذي يغطي الوجه ما عدا العيون، ومن المهم أن نلاحظ أن ارتداء الحجاب هو خيار شخصي في سوريا “حتى اليوم”، وبينما ترتديه العديد من السوريات، هناك أيضاً من يخترن عدم ارتدائه.
ويعود السبب في ذلك إلى التنوع الديني والثقافي الهائل في سوريا، إذ يُقال إنّ ما يميزها هو تعدد الطوائف والقوميات وفيها، فإلى جانب المسلمين بمذاهبهم المتنوعة، يعيش في سوريا المسيحيون والدروز، كما تضم الأكراد، الأرمن، الشركس، السريان وغيرهم، ولكل منهم لباسه التقليدي الذي يعبر عن هويته الثقافية، لذا، يصعب اختزال الحديث عن الزي السوري المعاصر كما فعلنا مع الماضي، لأن ملامحه اليوم باتت أكثر تشعباً، ترتديها أطياف واسعة لا يمكن حصرها ببساطة.
في الختام، مهما تغيرت الموضة وتبدّلت الصيحات، يبقى الزي السوري التقليدي محفوراً في ذاكرة الأقمشة، شاهداً على حضارة نسجت أناقتها بخيوط الأصالة وذوق راقٍ لا يشبه سواه.
اقرأ أيضاً: تأهيل جبل قاسيون: هل تتحول الصور التخيلية إلى حقيقة؟