في تحقيق صحفي مثير نُشر صباح اليوم، 17 نيسان 2025، كشفت وكالة «رويترز Reuters» عن تفاصيل عملية سرّية ومعقّدة نفّذها بشار الأسد قبيل سقوط سلطته، هدفت إلى تهريب مبالغ مالية ضخمة ووثائق حساسة وشخصيات من دائرته الضيقة إلى الخارج. وبالاستناد إلى مصادر مطّلعة وصور أقمار صناعية وسجلات طيران وتحقيقات عبر ثلاث قارات، يرسم المقال صورة دقيقة لما سمّاه: «عملية الأسد». فيما يلي ترجمة لأبرز ما جاء في تحقيق «رويترز»:
مع اقتراب خصومه من أبواب دمشق، أقدم بشار الأسد، الذي حكم سوريا بقبضة أمنية على مدى 24 عاماً، على تنفيذ عملية جوية سرّية نقل من خلالها أموالاً نقدية، ومقتنيات ثمينة، ووثائق بالغة الحساسية تكشف البنية الاقتصادية المعقدة التي قام عليها نفوذه المالي.
كان يسار إبراهيم، كبير المستشارين الاقتصاديين للأسد، هو المهندس الأول لهذه العملية، والذي أشرف على استئجار طائرة خاصة من طراز «إمبراير ليغاسي 600» لنقل ممتلكات الأسد، وعدد من أقاربه ومساعديه وموظفي القصر الرئاسي إلى الإمارات العربية المتحدة، وذلك عبر أربع رحلات منفصلة، وفق ما توصلت إليه وكالة رويترز بعد مقابلات مع أكثر من 12 مصدراً مطلعاً على تفاصيل العملية.
يسار إبراهيم، الذي كان يدير المكتب الاقتصادي والمالي في الرئاسة، يُعدّ أحد الأعمدة التي قام عليها النفوذ الاقتصادي للأسد، إذ ساهم في تشكيل شبكة من الكيانات والواجهات الاقتصادية التي استخدمها الأسد للسيطرة على قطاعات حيوية من الاقتصاد السوري. وتُظهر تقارير العقوبات الأميركية، إلى جانب شهادات خبراء اقتصاديين ومصادر من داخل الشبكة نفسها، أنّ إبراهيم كثيراً ما تصرّف نيابةً عن الأسد شخصياً، وكان مشمولاً بالعقوبات الغربية.
الطائرة الخاصة التي تحمل الرقم التسلسلي C5-SKY، والمسجلة في غامبيا، نفّذت أربع رحلات متتالية من وإلى سوريا خلال فترة 48 ساعة، قبيل سقوط النظام مباشرة، بحسب سجلات تتبّع الرحلات التي راجعتها رويترز.
الرحلة الرابعة كانت من قاعدة حميميم العسكرية، الخاضعة للسيطرة الروسية، يوم 8 كانون الأول 2024. وتشير سجلات الطيران وصور الأقمار الصناعية، إضافة إلى شهادة ضابط سابق في استخبارات القوى الجوية، إلى أن الأسد نفسه غادر من القاعدة ذاتها في اليوم نفسه متوجهاً إلى روسيا.
لم تُكشف تفاصيل العملية التي جرى من خلالها تهريب ممتلكات الأسد من سوريا من قبل. لكن رويترز تمكّنت من إعادة تركيب سيناريو التنفيذ عبر مقابلات مع 14 سورياً من أصحاب الاطلاع المباشر، من بينهم موظفون في المطار، وضباط سابقون في الاستخبارات والحرس الرئاسي، إلى جانب مصدر مطّلع من داخل شبكة الأسد المالية.
كما فحصت الوكالة مراسلات عبر تطبيق «واتساب» بين مقربين من يسار إبراهيم، وسجلات تتبّع الرحلات، وصوراً ملتقطة بالأقمار الصناعية، إضافة إلى سجلات الملكية في شركات الطيران والعقارات، موزعة على ثلاث قارات، لبناء سردية دقيقة عن كيفية تنفيذ هذه المهمة المحاطة بأقصى درجات السرية.
اقرأ أيضاً: أوروبا تدين العنف وتصادق على قرار بخصوص أصول الأسد
وثائق وأموال وشيفرات
كانت الطائرة تنقل حقائب سوداء غير معلمة، تحتوي على ما لا يقل عن 500 ألف دولار نقداً، إلى جانب وثائق، وأجهزة حاسوب محمولة، وأقراص صلبة تحتوي على معلومات استخباراتية حساسة تتعلق بـ«المجموعة» – وهو الاسم الرمزي الذي استخدمه الأسد ويسار إبراهيم للإشارة إلى الشبكة المعقدة من الكيانات الاقتصادية التي تغلغلت في قطاعات الاتصالات والمصارف والعقارات والطاقة وغيرها، وفقاً لما أكده مصدر من داخل الشبكة، وضابط سابق في المخابرات الجوية، ومحادثة عبر تطبيق «واتساب».
كان موقع الأسد – في أيامه الأخيرة في الحكم – سرياً للغاية، حتى عن بعض أقرب أفراد عائلته. واليوم، يعيش الأسد في روسيا حيث مُنح اللجوء السياسي (بحسب معلوماتنا اللجوء إنساني وليس سياسي – المترجم). ولم تتمكن «رويترز» من الوصول إلى الأسد أو يسار إبراهيم للتعليق. كما لم ترد وزارتا الخارجية في «روسيا» والإمارات على الأسئلة التي وجهتها لهما الوكالة بشأن هذه العملية.
وأكد مسؤول من الحكومة السورية الجديدة أنّ أموالاً قد خرجت بالفعل من البلاد، دون أن يفصح عن الكيفية، مضيفاً أنّ التحقيقات جارية لتحديد الوجهات النهائية لتلك الأموال.
ولم تستطع «رويترز» التأكد بشكل مستقل مما إذا كان الأسد قد أشرف بنفسه على تفاصيل هذه العملية، لكن عدة مصادر على دراية مباشرة بها أكدت أن العملية لم تكن لتتم دون موافقة منه شخصياً.
اقرأ أيضاً: إدارة العمليات العسكرية تعيد لـ فراس رفعت الأسد منزله المصادر في اللاذقية
«أنتم لم تروا هذه الطائرة»
في السادس من كانون الأول، وبينما كانت قوات من «هيئة تحرير الشام» تتقدّم باتجاه العاصمة، اقتربت الطائرة الخاصة الصغيرة، التي تتسع لـ13 راكباً، من مطار دمشق الدولي.
انتشر أكثر من عشرة عناصر يرتدون الزي العسكري لحماية قاعة الشرف المخصصة لكبار الشخصيات، والطريق المؤدي إليها، بحسب شهادة ستة مصادر مطّلعة على ما جرى، بينهم أربعة قالوا إنهم كانوا حاضرين وقت التنفيذ.
وصلت إلى المنطقة سيارات مدنية قليلة، نوافذها معتمة، وفقاً لثلاثة من الشهود. وأوضح اثنان منهم – أحدهما ضابط استخبارات سابق، والآخر مسؤول كبير في المطار – أن هذه السيارات تعود إلى «الحرس الجمهوري» المكلّف بحماية الأسد والقصر الرئاسي.
أكّد أحد كبار قادة الحرس الجمهوري السابقين أنّ مجرد مشاركة هذا الجهاز الأمني في العملية يعني أن «بشار الأسد هو من أعطى الأوامر مباشرة»، مشيراً إلى أن الحرس لا يتلقى تعليماته إلا من قائده، وهو ابن عم الرئيس، اللواء طلال مخلوف، أو من الرئيس شخصياً.
العميد غدير علي، رئيس أمن المطار، أبلغ موظفيه بأنّ عناصر المخابرات الجوية هم من سيتولون التعامل مع الطائرة، بحسب ما أفاد محمد قيروط، رئيس العمليات الأرضية في الخطوط الجوية السورية. ونقل قيروط عن العميد قوله: «هذه الطائرة ستهبط، ونحن من سنتولى أمرها. أنتم لم تروا شيئاً».
وأكد ثلاثة مسؤولين في المطار، إلى جانب ضابط استخبارات سابق، أن العميد غدير علي، الضابط البارز في المخابرات الجوية، كان يتلقى أوامره مباشرة من القصر الرئاسي. ولم تتمكن «رويترز» من التواصل مع علي للحصول على تعليق منه.
الساعات الأخيرة
كانت طائرة C5-SKY تهبط في كل مرة في مطار البطين التنفيذي في أبو ظبي، وهو مطار يُستخدم عادةً من قبل كبار الشخصيات ويشتهر بصرامته في الحفاظ على الخصوصية، وفقاً لبيانات منصة Flightradar24.
في البدء، أقلعت الطائرة من دبي في السادس من كانون الأول، وهبطت في دمشق قرابة منتصف النهار بالتوقيت المحلي. ثم غادرت إلى مطار البطين، لتعود مجدداً إلى دمشق بعد العاشرة مساءً.
قال أحد العاملين في المطار، من بين خمسة شهود تحدثوا إلى رويترز، إن «السيارات كانت تندفع بسرعة نحو الطائرة فور هبوطها، تمكث لفترة وجيزة، ثم تغادر قبيل الإقلاع مباشرة».
ووفقاً لضابط الاستخبارات السابق، فقد أبلغ العميد علي عناصر المخابرات الجوية بأنّ رحلتي السادس من كانون الأول ستقلّان أفراداً من القصر الرئاسي وأقارب الأسد، بمن فيهم مراهقون، إلى جانب حقائب محمّلة بالنقود. ولم تتمكن «رويترز» من الاطلاع على قائمة الركاب أو حمولة الرحلات الأربع لتأكيد محتوياتها بدقة.
أما الرحلة الثانية من دمشق، فقد نُقلت خلالها أيضاً لوحات فنية وبعض التماثيل الصغيرة، بحسب المصدر نفسه.
وفي السابع من كانون الأول، عادت الطائرة إلى دمشق قرابة الساعة الرابعة بعد الظهر، وغادرت إلى البطين بعد ساعة تقريباً، وهذه المرة كانت محمّلة بحقائب من الأموال وأجهزة إلكترونية وأقراص صلبة تحتوي على معلومات حساسة تتعلّق بشبكة الأسد الاقتصادية، وفقاً لضابط الاستخبارات والمصدر من داخل الشبكة.
وتضمّنت هذه المعلومات سجلات مالية، ومحاضر اجتماعات، وبيانات ملكية شركات، وأصول عقارية، وشراكات تجارية، إضافة إلى تفاصيل عن تحويلات مالية وشركات وحسابات خارجية.
وفي هذه المرحلة، اقتربت سيارات تابعة للسفارة الإماراتية في دمشق من منطقة كبار الشخصيات في المطار، بحسب ما أفاد به ضابط الاستخبارات، مشيراً إلى أنّ هذه الخطوة تُشير إلى علم الإمارات المسبق بالعملية.
اقرأ أيضاً: حصاد عام مختلف: كيف تستقبل سوريا العام 2025 بعد إسقاط الأسد؟
منعطف إلى القاعدة الروسية
في الساعات الأولى من صباح 8 كانون الأول، وصل مقاتلو المعارضة إلى دمشق، ما دفع الأسد إلى الفرار باتجاه معقله الساحلي في اللاذقية، بالتنسيق مع القوات الروسية. وقد توقف مطار دمشق الدولي عن العمل في ذلك اليوم.
بعد منتصف الليل بقليل، أقلعت طائرة C5-SKY من مطار البطين للمرة الأخيرة. وبينما كانت تحلّق فوق مدينة حمص شمالي دمشق، قرابة الساعة الثالثة فجراً بالتوقيت المحلي، اختفت عن رادارات تتبع الطيران لمدة ست ساعات تقريباً، قبل أن تعاود الظهور فوق حمص مجدداً في طريقها عائدةً إلى أبو ظبي، بحسب بيانات Flightradar24.
خلال هذه الفترة، هبطت الطائرة في قاعدة حميميم الواقعة في محافظة اللاذقية، وفقاً لضابط المخابرات الجوية السابق.
وتُظهر صورة التقطها القمر الصناعي «بلانيت لابز» عند الساعة 9:11 صباحاً الطائرة على مدرج قاعدة حميميم. واستطاعت «رويترز» التأكد من أن الطائرة الظاهرة في الصورة هي نفسها C5-SKY، من خلال مقارنة الحجم والشكل مع بيانات تتبّع الرحلات، حيث كانت الطائرة الخاصة الوحيدة التي غادرت سوريا وعادت إليها بين السادس والثامن من كانون الأول.
كان على متن هذه الرحلة أحمد خليل خليل، أحد المقربين من يسار إبراهيم ونشط ضمن الشبكة الاقتصادية للأسد، بحسب ضابط الاستخبارات، والمصدر من داخل الشبكة، ومحادثات «واتساب» حصلت عليها الوكالة.
وصل أحمد خليل، الذي يخضع لعقوبات غربية لدوره في إدارة عدة شركات داعمة للنظام، إلى القاعدة الروسية على متن سيارة مصفحة تابعة للسفارة الإماراتية، وكان يحمل معه نصف مليون دولار نقداً، وفقاً للمصدر من داخل الشبكة والمحادثات الرقمية.
وقد سحب خليل هذا المبلغ قبل يومين من حساب في «بنك سوريا الدولي الإسلامي» (SIIB)، وفقاً للمصادر ذاتها.
وأفاد المصدر بأن الحساب يعود لشركة «البرج للاستثمار» التي تتخذ من دمشق مقراً لها، والتي يملك يسار إبراهيم نصف أسهمها، بحسب منصة «سيريا ريبورت» المتخصصة، والتي اعتمدت في بياناتها على سجلات رسمية سورية تعود لعام 2018.
لم يرد أحمد خليل على طلبات التعليق التي أُرسلت عبر حسابه على فيسبوك. كما لم ترد شركة «البرج» أو بنك SIIB على رسائل البريد الإلكتروني التي وجهتها لهم الوكالة.
الطائرة اللبنانية
بحسب أحد أعضاء النخبة الاقتصادية السورية، ومصدر من داخل شبكة الأسد، فإن يسار إبراهيم استأجر الطائرة من رجل الأعمال اللبناني محمد وهبة. وقد وُصفت الطائرة في محادثة عبر تطبيق «واتساب» من قبل أحد مساعدي إبراهيم بـ«الطائرة اللبنانية».
ويمتلك وهبة شركة «Flying Airline FZCO»، المسجّلة في إحدى المناطق الحرة في دبي، بحسب ما ورد في صفحته على موقع «لينكد إن».
في نيسان 2024، نشر محمد وهبة صوراً للطائرة C5-SKY على حسابه في «لينكد إن» مُرفقة بتعليق «مرحباً». وفي كانون الثاني من العام التالي، كتب منشوراً آخر يشير فيه إلى أنّ الطائرة معروضة للبيع.
وقد تم تسجيل الطائرة في غامبيا باسم شركة محلية تُدعى «Flying Airline Company» منذ نيسان 2024. وتُظهر سجلات تتبّع الرحلات أنّ الطائرة كانت تسافر بشكل منتظم في الأشهر التي سبقت سقوط الأسد إلى روسيا.
لم تتمكن «رويترز» من الوصول إلى جهة الاتصال المسجلة لشركة Flying Airline Company في غامبيا، ويدعى شيخ تيجان جالو.
ووفقاً للسجلات الغامبية، فإنّ ملكية شركة Flying Airline Co. موزعة بنسبة 70 بالمئة على رجل أعمال عراقي يُدعى صفا أحمد صالح، و30 بالمئة على لبناني يُدعى أسامة وهبة.
وتُظهر حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي أن لمحمد وهبة ابناً يُدعى أسامة يعمل أيضاً في قطاع الطيران، إلا أنّ «رويترز» لم تتمكن من تأكيد ما إذا كان هو الشخص نفسه الوارد في السجلات.
وعند التواصل معه، أنكر محمد وهبة أيّ علاقة له برحلات طائرة C5-SKY من وإلى سوريا، وأبلغ «رويترز» بأنه لا يملك الطائرة، بل يستأجرها «أحياناً» من وسيط لم يُفصح عن اسمه. ولم يجب وهبة على أسئلة إضافية تتعلق بمشاركة ابنه المحتملة.
كما لم يرد أسامة وهبة على طلب التعليق، ولم تتمكن الوكالة من العثور على أي وسيلة اتصال بصفا أحمد صالح.
اقرأ أيضاً: تقسيم سوريا: الموقف التركي ودوافعه والتحديات التي تواجه البلاد
اقرأ أيضاً: جهود سعودية لتسوية ديون سوريا.. خطوة نحو إعادة الإعمار تنتظر التأكيد
اقرأ أيضاً: رفع حالة الطوارئ.. تقنين مائي حاد في دمشق خلال الصيف