في خطوة تبدو كـ”مسكن مؤقت” لألم مزمن، أعلنت وزارة الاتصالات السورية مؤخرًا إعفاء المشتركين المتضررين من انقطاع الخدمات الهاتفية من رسوم الفواتير حتى استعادتها، خاصة في مناطق مثل الحسينية بريف دمشق، حيث تجاوز الانقطاع 81 يوماً.
لكن القرار، الذي يظهر اعترافاً ضمنياً بفشل إصلاح الشبكات، وهو ما لا يمكن لوم الحكومة الحالية عليه، يدفع إلى تساؤلات أكبر.. لماذا تتحول الاتصالات، وهي شريان الحياة الحديثة، إلى رفاهية بعيدة المنال في سوريا؟ وهل يمكن لاستمرار الانهيار أن يدفع البلاد نحو عزلة تكنولوجية كاملة؟
من الازدهار إلى الترهل: كيف بدأت القصة؟
دخلت شركة “سيريتل” (Syriatel) السوق السورية عام 2000 كأول مشغل خاص للهواتف المحمولة، تلتها “إم تي إن” (MTN) تحت اسم “94” ثم “أريبا” عام 2002، في إطار سياسة الانفتاح الاقتصادي المحدود التي تبنتها الدولة آنذاك.
وخلال عقدها الأول، قدمت الشركتان خدمات خلوية اعتبرت “ثورة” في بلد كان الاتصال فيه يرتبط بانتظار سنوات لتركيب خط أرضي.
وبحلول عام 2006، ومع طرح تقنية الجيل الثالث (3G)، ارتفع عدد المشتركين في الخدمة، وبدأت خدمات الإنترنت المنقولة عبر الهواتف تنتشر، وإن كانت بسرعات لا تتجاوز 2 ميجابايت/ثانية.
ورغم ارتفاع الأسعار مقارنة بدخل الفرد (حيث كان متوسط تكلفة الاشتراك الشهري يعادل 10% من الحد الأدنى للأجور)، إلا أن الجودة كانت مقبولة، مع شكاوى متفرقة حول الازدحام الشبكي أو التغطية غير المتكافئة بين المدن والأرياف.
الحرب والانهيار
مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تحول قطاع الاتصالات إلى ساحة حرب مفتوحة؛ فالأبراج الخلوية صارت أهدافاً عسكرية، والكابلات الأرضية قطعت كخطوط تماس، فيما حولت العقوبات الدولية استيراد أبسط المعدات التقنية إلى عملية شبه مستحيلة.
ولم تكن الشبكات تتداعى بسبب هذه العوامل فحسب، بل أيضاً بسبب شح الوقود اللازم لتشغيل المولدات، ما حول الانقطاعات إلى واقع يومي حتى في المناطق الخاضعة للنظام المخلوع.
وبحلول 2020، تقلصت التغطية الخلوية إلى 40% من مساحة البلاد، وفقا لتقارير أممية، بينما تراجعت سرعة الإنترنت إلى أقل من 1 ميجابايت/ثانية، مع انقطاعات أسبوعية حولت عملية تجديد الرصيد إلى رحلة معاناة في ظل انهيار الليرة السورية.
اليوم، ورغم مرور 14 عاماً على الأزمة، لا يزال القطاع يرزح تحت وطأة المشكلات نفسها.. أسعار ارتفعت 300%، وشبكات بالية تتعثر حتى في نقل رسالة نصية.
ظهور وفا تيليكوم إلى العلن
في محاولةٍ لاستعادة الأمل، وتحسين الخدمة أُعلن عن مشغل ثالث باسم “وفا تيليكوم”، لكن هذا الأمل تبخر سريعاً مع تصاعد الأحداث وتعقيدها؛ فبعد سقوط نظام الأسد، دخل مصير المشروع في نفق مظلم.
وتحولت “وفا تيليكوم” من مشروع مُعلن عنه بضجة إعلامية إلى مجرد ورقة في أرشيف الأزمات، كما لم يعد السوريون ينتظرون اتصالًا أفضل، بل ينتظرون نهاية حربٍ حولت كل شيءٍ – حتى الهاتف المحمول – إلى ساحة صراع.
اقرأ أيضاً: وزير الاتصالات: استخدام تقنيات حديثة تعتمد الألياف الضوئية لتطوير الاتصالات
من صواريخ الحرب إلى فواتير الإصلاح المستحيلة
كشفت تقارير اقتصادية تفاصيل مروعة عن حجم الدمار الذي طال بنية الاتصالات السورية، حيث دمرت الحرب في سوريا 70% من أبراج الاتصالات في محافظات مثل حلب وإدلب، فيما تحولت الكابلات البحرية الرئيسية (مثل SEA-ME-WE 4) إلى هياكل متآكلة، تبتلع صيانتها 45 مليون دولار سنوياً، بعد أن كانت تكلفتها قبل الحرب لا تتجاوز 12 مليوناً.
ولم تكن العقوبات الدولية بمنأى عن الأزمة، فتحول استيراد محول “الفايبر” من عملية روتينية بتكلفة 800 دولار إلى مغامرة مكلفة عبر السوق السوداء بسعر خيالي بلغ 12 ألف دولار.
وفي المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام المخلوع، تراجعت القدرة على مواجهة الانهيار، حيث انخفضت ميزانية صيانة الشبكات من 320 مليون دولار عام 2010 إلى أقل من 30 مليوناً في 2023، ما أدى إلى تراكم الأعطال دون حلول.
أما في المناطق خارج سيطرة حكومة النظام السابق، وفقاً للتقارير، فأصبح الحصول على اتصال مستقر ضرباً من الترف؛ فخدمات “ستارلينك” السرية – رغم سرعتها التي تلامس 150 ميجابايت/ثانية – تبقى حكراً على قلّة بسبب تكلفة تركيبها التي تفوق آلاف الدولارات، في حين يعتمد معظم السكان على شبكات محلية هشة تُدار بإمكانيات شبه بدائية.
والأمر الأكثر إيلاماً هو كلفة الإصلاح نفسها؛ فإعادة تأهيل متر واحد من الكابلات التحتية التالفة تصل إلى 850 دولاراً، ما يرفع فاتورة إصلاح القطاع منذ 2011 إلى 2.3 مليار دولار، وهو رقم يعكس فشل كل المحاولات الرسمية في إدارة الأزمة، التي لا تبدو – في ظل الاستمرار بسياسة “الإعفاءات المؤقتة” – سوى محاولة لطي صفحة الانهيار بأوراق بيروقراطية!
شبكات بلا إشارة
في نهاية المطاف، لم تعد أزمة الاتصالات في سوريا مجرد انقطاع تقني، بل تحولت إلى سردية إنسانية، فالشبكات المتهالكة لم تُفقد السوريين قدرتهم على التواصل فحسب، بل سرقت منهم إمكانية الحلم بمستقبلٍ رقميٍ في دولةٍ سرقت الحرب امكانياتها.
وقرار الإعفاء من الفواتير، رغم أنه بادرة إيجابية، لا يعالج أسباب الانقطاعات، بل يكتفي بتأجيل تحصيل الديون، فاستعادة الخدمة تتطلب ترميم الشبكات، وتأمين قطع الغيار، وضمان استقرار كهربائي، كلها أمور بعيدة المنال حاليًا، وعلى الحكومة الحالية، أو أي حكومة قادمة، أن تتعامل معها كواقع ثقيل الظل يجب عدم تأجيله.