لا يزال موضوع إزالة العقوبات الغربية عن دمشق هو محور عمل الإدارة الجديدة في سوريا، تمهيداً لإطلاق مشروع “إعادة الإعمار” على نطاق واسع في البلاد، حيث أن العقوبات المشددة تعيق الحكومات والشركات العربية والأجنبية عن فتح قنوات اتصال مع الحكومة الجديدة، رغم أن دولاً عديدة أبدت رغبتها في دعم الدولة السورية لتجاوز المرحلة الحالية؛ وإن كان هذا الدعم مشروطاً بجملة من المتطلبات السياسية والأمنية.
وفي هذا السياق يبرز الدور الألماني وقدرته على تغيير الموقف الأوروبي بشأن العقوبات، خاصّة بعد الزيارتين المتتاليتين لوزيرة الخارجية الألمانية إلى دمشق بعد سقوط نظام الأسد، وهو ما يؤكد سعي برلين لفهم المشهد السوري بشكل أكبر وأقرب؛ فهل تملك ألمانيا القدرة والرغبة بإحداث التغيير في الملف السوري؟
ألمانيا وإعادة الإعمار في سوريا
مؤخراً، كشف توبياس تونكل – Tobias Tunkel مدير مكتب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الألمانية أن العقوبات تعتبر موضوعاً معقداً للغاية، ومن غير المستسحن في الوقت الحالي إزالة تلك العقوبات لحين تحقيق الإدارة الجديدة في سوريا مجموعة من الالتزامات.
بحسب التقديرات الدولية، فإن عملية “إعادة الإعمار” في سوريا مكلفة للغاية، وتصل في الحد الأدنى إلى 250 مليار دولار أميركي، بينما يرتفع الرقم إلى أكثر من ذلك وفقاً لمنظمات حقوقية وإنسانية.
وعن الموقف الألماني بشأن الدعم المالي لسوريا، يرى توبياس تونكل أنَّ “مهمة الحكومة الألمانية لا تقتصر فقط على تقديم الأموال، بل يجب أن تشمل قبل كل شيء تهيئة الظروف المناسبة من أجل تحسين سبل العيش في سوريا”، في إشارة إلى تمهيد الطريق لإعادة اللاجئين السوريين من ألمانيا.
وكشفت بيانات المكتب الاتحادي للإحصاء في ألمانيا، أن عدد اللاجئين السوريين الذين يعيشون في ألمانيا بلغ حوالي 973 ألف سوري في نهاية عام 2023، من بينهم حوالي 712 ألف شخص يبحث عن الحماية، بما في ذلك الأشخاص الذين تقدموا بطلبات الحصول على اللجوء، وطالبي اللجوء المرفوضين، والأشخاص الذين يتمتعون بحماية مؤقتة لاعتبارات إنسانية.
وقال تونكل: “يجب على المجتمع الدولي أن يعتني بسوريا حتى يتمكن الشعب السوري من تشكيل العملية الانتقالية بنفسه، ومن دون تدخل جهات خارجية”.
وتتماشى تصريحات المسؤول الألماني مع الموقف الأوروبي بشكلٍ عام، حيث تنشغل أوروبا حالياً بالحرب في أوكرانيا، أما سوريا فلم تعد منذ فترة في محور الاهتمام، بحسب ما يكشفه كلام المسؤولين الألمان والأوروبيين على حدٍ سواء.
وفي سياق متصل، لا يبدو أن وضع ميزانية الحكومة الألمانية الجديدة جيد بحيث تكون قادرة على المشاركة الفعالة في “إعادة إعمار” سوريا، في الوقت الذي تواصل فيه برلين تقديم الدعم لأوكرانيا، بعد توقف الدعم الأميريكي عن كييف.
أكبر داعم لأوكرانيا يترنّح
تواجه ألمانيا اليوم وضعاً معقداً، فالاقتصاد المحلي يعيش “الركود” للعام الثاني على التوالي، وهي حالة لم تعرفها برلين منذ أكثر من عقدين، حيث بدأت علائمها تظهر مع جائحة كورونا، ومن ثم ازدادت الحالة سوءاً بعد الحرب الأوكرانية عام 2022 والتي دفعت أوروبا نحو الاصطفاف خلف حكومة كييف، ما أجبرها على التخلي عن الغاز الروسي، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الاستهلاكية في أوروبا إلى مستويات قياسية.
وبدأت تجليات الركود الاقتصادي تظهر على الشركات الكُبرى في ألمانيا، حيث أعلنت “فولكس فاغن – Volkswagen” عن خطط لإقفال 3 من أصل مصانع لها داخل ألمانيا، ومصانع أخرى في أوروبا، مع تسريبات تشير الى تسريح أعداد كبيرة من العمال والموظفين تقدر بنحو 30 ألف موظف.
كما قررت شركة “كونتيننتال – Continental“، المورد الرئيسي لقطاع السيارات في ألمانيا تقليص قوتها العاملة بنحو 7 آلاف وظيفة، وإغلاق عدة مواقع لها.
وتعد ألمانيا أكبر داعم مالي لأوكرانيا، وثاني أكبر مصدر للأسلحة إلى كييف بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن ميزانية 2025 غيّرت من الوقائع المالية والعسكرية على الأرض.
وأعلن وزير المالية الألماني خفض حصّة المساعدات لأوكرانيا خلال موازنة 2025 من 8 إلى 4 مليارات دولار، بالإضافة إلى الاستمرار في سياسة كبح الديون الحكومية وتجنّب الاقتراض العام.
زيارتان متتاليتان
في شهر آذار الماضي، حطّت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك – Annalena Baerbock في دمشق للمرة الثانية منذ سقوط نظام الأسد، وأجرت محادثات مع رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني.
وخلال الزيارة افتتحت الوزيرة الألمانية سفارة بلادها في دمشق بعد إغلاق دام 13 عاماً، كما زارت حيّ جوبر الدمشقي للاطلاع على حجم الأضرار فيه.
ووجهت بيربوك دعوة للحكومة السورية المؤقتة من أجل السيطرة على”العناصر المتطرفة”، وفق ما ذكرته وكالة الصحافة الفرنسية.
وقالت الوزيرة الألمانية حينها: “إن بداية سياسية جديدة بين أوروبا وسوريا، وبين ألمانيا وسوريا، أمر ممكن… ولكن هذا يرتبط أيضاً بتوقعات واضحة مفادها أن الحرية والأمن والفرص في سوريا تنطبق على جميع الناس، النساء والرجال، وأتباع جميع المجموعات العرقية والأديان”.
وبعد أسابيع قليلة من سقوط نظام الأسد، زارت وزيرة الخارجية الألمانية دمشق والتقت الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، في أول زيارة لمسؤول ألماني من هذا المستوى إلى سوريا منذ أكثر من 13 عاماً.
اليوم، لا يبدو أن ألمانيا تملك الرغبة وربما القدرة على إحداث تغيير جوهري في طريقة التعاطي الأوروبي مع الملف السوري، لا من ناحية إزالة العقوبات، ولا حتى المشاركة الفردية في تقديم الأموال، حيث تريد برلين من حكومة دمشق تحقيق جملة من الشروط السياسية والأمنية، كمقدمة لإزالة العقوبات الغربية، وحينها تكون تلك الحكومة قادرة بنفسها على تحسين سبل العيش داخل البلاد، وفي هذه الأثناء يكون المجتمع الدولي قادراً على المساعدة بشكلٍ جماعي لتخفيف الأعباء عن الأوروبيين المنشغلين بحرب أوكرانيا.
اقرأ أيضاً: هل تتجاوز تركيا حدود السيادة السورية؟!