تشهد العاصمة السورية دمشق حالة من الترقب والقلق مع اقتراب المهلة الأخيرة التي حددتها المحافظة لأصحاب البسطات والباعة المتجولين لإخلاء مواقعهم المخالفة بحلول مساء اليوم. وفي فجر الأحد، تنطلق حملة واسعة بقيادة فرق المحافظة لإزالة هذه الإشغالات ومصادرتها، إيذانًا بنهاية فترة من الانتشار العشوائي الذي طبع ملامح المدينة، خاصة عقب التحولات الكبرى التي أعقبت سقوط نظام الأسد.
وتأتي هذه الإجراءات ضمن خطة تنظيمية شاملة، لا تقتصر على الإزالة فقط، بل تشمل أيضاً توفير بدائل عبر أسواق مؤقتة منظمة، حيث كشفت المحافظة عن آلية توزيع المواقع، مع التركيز على منح الأولوية للفئات الأكثر تضرراً من آثار الحرب الطويلة.
بين الضرورة الاقتصادية والفوضى التنظيمية!
شهدت دمشق في السنوات الأخيرة تحولًا لافتاً في طبيعة أسواقها وشوارعها، مدفوعًا بالتغيرات السياسية والاقتصادية المتلاحقة، فقد أصبحت البسطات، التي كانت محدودة الانتشار في السابق، ظاهرة بارزة، تشكل مصدر رزق أساسيًا لآلاف المواطنين الذين لجأوا إليها كملاذ اقتصادي وسط تحديات معيشية متزايدة وارتفاع معدلات البطالة.
وتميزت هذه البسطات بتوفير مجموعة متنوعة من السلع بأسعار تنافسية تقل غالبًا عن أسعار المحال التجارية النظامية، مما جذب إقبالًا شعبيًا واسعًا، إلا أن انتشارها المتزايد أثر سلبًا على المظهر الحضري للعاصمة، وأسفر عن اختناقات مرورية وفوضى في حركة المشاة، الأمر الذي أثار استياء العديد من سكان دمشق ودفع السلطات المحلية إلى اتخاذ إجراءات تنظيمية صارمة للحد من هذا الوضع.
وجدير بالذكر أن الحملات السابقة لإزالة البسطات، والتي شملت مختلف القطاعات مثل الصرافة المتنقلة وبيع الملابس والمواد الغذائية، خلفت آثارًا سلبية عميقة لدى الباعة، خاصة مع ورود تقارير تشير إلى صعوبة أو استحالة استعادة ممتلكاتهم المصادرة، وهذا الأمر يعزز حالة القلق والترقب التي يعيشها هؤلاء الباعة، لا سيما مع اقتراب تنفيذ حملة مصادرة واسعة جديدة.
أسواق مؤقتة وحلول منظمة
سعيًا منها إلى إيجاد حلول أكثر شمولية للحد من الأثر السلبي لعمليات الإزالة، وضعت محافظة دمشق خطة تهدف إلى توفير أسواق مؤقتة منظمة للباعة المتجولين، وأعلنت تجهيز أكثر من عشرة مواقع استراتيجية موزعة في أحياء العاصمة لتكون أسواقًا بديلة تخضع لرقابة وإدارة محددة، مع خطة مستقبلية لإنشاء أحد عشر موقعًا إضافيًا لهذه الغاية، وفق آليات توزيع شفافة تضمن الاستفادة العادلة من هذه الفرص.
وبحسب إبراهيم أبو الخيش، من مديرية الأملاك في محافظة دمشق، فإن 65% من المواقع المخصصة ستمنح للفئات الأكثر تضررًا من تداعيات الحرب، من بينهم ذوو الشهداء، مصابو الحرب غير القادرين على العمل، وأصحاب الاحتياجات الخاصة، في خطوة تعكس بعدًا إنسانيًا واجتماعيًا يسعى لتحقيق العدالة وتوفير فرص اقتصادية مستقرة.
أما النسبة المتبقية، البالغة 35%، فستكون متاحة للراغبين في الحصول على فرصة عمل منظمة، عبر تقديم طلب رسمي في مركز خدمة المواطن التابع للمحافظة، مع إرفاق الوثائق المطلوبة مقابل رسوم رمزية لاستئجار هذه المواقع.
وتضمنت خطة المحافظة تنوعًا جغرافيًا يراعي احتياجات مختلف الباعة والزبائن، حيث تم تخصيص مواقع في مناطق حيوية مثل كراج صيدنايا، مرآب الصوفانية، السويقة، حي الزهور، نهر عيشة، الزبلطاني، ومنطقة قريبة من وزارة التجارة الداخلية، كما يبرز مشروع السوق الشعبي الجديد في ساحة جامع الوسيم بمخيم اليرموك، والذي يحمل دلالة خاصة نظرًا لارتباطه بجهود إعادة إعمار وتأهيل المخيم بعد سنوات الحرب، ما لاقى ترحيبًا واسعًا بين سكانه الذين يرون فيه فرصة لاستعادة النشاط الاقتصادي وتأمين مصدر رزق مستدام.
اقرأ أيضاً: المحافظة بدمشق تهدد بإزالة الإشغالات والباعة يعترضون «هذا رزقنا»!
بين الترحيب والرفض
تشدد محافظة دمشق، عبر مسؤوليها، على المكاسب المتوقعة من الخطة التنظيمية الجديدة، والتي تهدف إلى تحسين المشهد الحضري للعاصمة بعد سنوات من العشوائية، فإزالة البسطات غير النظامية وتنظيم حركة المرور والمشاة من شأنهما تعزيز انسيابية السير وتوفير بيئة أكثر أمانًا للمارة، فضلاً عن إضفاء طابع أكثر تنظيمًا على النشاط التجاري في المدينة.
كما ينظر إلى تخصيص أماكن مرخصة للباعة ضمن أسواق منظمة كخطوة مهمة لدعم الاقتصاد المحلي، حيث تتيح فرص عمل قانونية، لا سيما للفئات الأكثر تضررًا، مما يسهم في تحسين الدخل الفردي وتنشيط الحركة الاقتصادية في المناطق المستهدفة، إضافةً إلى ذلك، فإن إقامة أسواق خاضعة لرقابة محددة يعزز الثقة في التعاملات التجارية ويخلق بيئة أكثر استقرارًا للبائعين والمستهلكين.
ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات لم تلقَ إجماعًا في الشارع الدمشقي، حيث يحتدم الجدل بين مؤيد ومعارض لهذه التحولات، فبينما يرى العديد من السكان، خاصة أصحاب المحال التجارية النظامية، الذي وصل بهم الأمر للإضراب كما حدث في سوق الصالحية، أن هذه الخطوات ضرورية لمعالجة الفوضى المتزايدة وضمان بيئة عمل أكثر تنظيمًا، هناك رفض واسع من قبل الباعة المتجولين الذين يعتمدون على هذه البسطات كمصدر رزق أساسي.
إذ يعتبرون أن إزالتها، حتى وإن رافقتها وعود بتوفير بدائل، قد تضعهم أمام تحديات اقتصادية أكبر، خاصة إذا كانت الأسواق الجديدة غير كافية من حيث العدد أو لا تلبي متطلبات المواقع التجارية المعتادة.
وهذا التباين في الآراء يعكس عمق الإشكاليات التي تحيط بهذه الخطوة، حيث يبقى نجاحها مرهونًا بمدى قدرة المحافظة على تحقيق توازن بين متطلبات التنظيم وضمان حقوق الفئات الأكثر هشاشة اقتصاديًا.
ومع بقاء ساعات قليلة على انتهاء المهلة الممنوحة، تتركز الأنظار على كيفية تعامل محافظة دمشق مع آلاف الباعة الذين قد لا يتمكنون أو لا يرغبون بالانتقال إلى المواقع الجديدة. هل ستتم عمليات الإزالة والمصادرة بالقوة كما تم التلويح؟ وكيف ستكون آلية عمل الأسواق البديلة الأحد عشر؟ وهل ستنجح بالفعل في استيعاب جزء كبير من الباعة وتوفير مصدر دخل مستدام لهم، أم أنها ستكون مجرد حلول جزئية تترك الكثيرين في مهب الريح؟ الأيام القادمة لن تكشف فقط عن مدى حزم السلطات في فرض النظام، بل أيضاً عن مدى واقعية وعمق الحلول الاجتماعية والاقتصادية المقترحة لمعضلة البسطات في دمشق ما بعد الحرب.
اقرأ أيضاً: تعميم: منع تجوال الدراجات النارية غير المرخصة داخل دمشق