يعدّ تهريب الآثار بالمرتبة الثالثة في قائمة الجرائم التي تحاسب عليها الدول منفذيها أقسى حساب بعد تهريب المخدرات والأسلحة، وقد عانت سوريا منذ القدم من سرقة آثارها الذي يعكس تاريخها وحضارتها العريقة. واليوم، لا تزال بعض العصابات والمجموعات المسلحة، مستغلّة حالة الضعف الأمني الموجود في سورية اليوم، قادرة على نبش هذه الآثار وبيعها.
منذ استقلال سورية عام 1946 أصبح التحرك نحو توسيع الاهتمام بالآثار السورية وافتتاح المتاحف حاجة ملحة نتيجة بدء التطوير السياحي، والجدير بالذكر أن لسوريا أكثر من 4000 موقع آثري مسجل، كما تضم سورية ستة مواقع مسجلة على لائحة التراث العالمي وهي دمشق القديمة، وبصرى القديمة، وتدمر، وحلب القديمة، وقلعة الحصن وقلعة صلاح الدين. وكانت منظمة اليونيسكو قد وافقت في العام 2011 على إضافة ” محميات أو متنزهات أثرية تضم 40 قرية أثرية من قرى «الكتلة الكلسية»، أو ما يُعرف بـ«المدن الميتة أو المنسية»، في الشمال السوري، إلى لائحة التراث العالمي.
لكن وللأسف، لم يمضِ عهد على سورية تمكنت فيه السلطات من حماية الآثار بشكل كلي، لدرجة أنّ الكثير من الأحاديث والشهادات، ربطت رجال السلطة في الخمسينيات بسرقة الآثار من أماكن كوادي بردى (مغاوير سوق وادي بردى). وكذلك الأمر في الثمانينيات وصاعداً، حيث ارتبط بيع الآثار بأسماء أشخاص مشهورين من السلطة، مثل رفعت الأسد وأحمد عبود وغيرهما.
تهريب الآثار وسرقة المتاحف خلال الثورة والحرب السورية
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011 أصبحت هذه المواقع مهددة بالسرقة، ومع دخول العديد من العصابات الدولية المختصة بتهريب الآثار، والتأكد من إدخال معداتها التكنولوجية وأجهزة اتصالاتها عبر الأقمار الصناعية وجه رئيس الحكومة في النظام السابق الدكتور عادل سفر كتاباً تحذيرياً استباقياً إلى وزراء الاتصالات والتقانة، والثقافة والمالية، فضلاً عن حاكم مصرف سورية المركزي، يطالب فيه باتخاذ إجراءات الحماية والأمان، مع العلم أن هذه العصابات متخصصة بسرقة المخطوطات والآثار والمتاحف والخزائن والبنوك، وسبق أن دخلت هذه الشبكة إلى العراق وليبيا.
فقد تمت عمليات النهب الجزئية لقطع أثرية في العديد من المتاحف السورية، وخصوصاً متحف حمص الأثري الذي ما زال مصير الآثار فيه غامضاً، مع ورود تقارير حول وصول قطع مهرّبة من المتحف إلى خارج البلاد، كما تم سرقة متحف أفاميا عبر عملية سطو ممنهجة ونهب منه تمثال روماني رخامي وقطع أخرى، ونهب الفسيفساء الرومانية من مدينة أفاميا الأثرية، إذ استخدم اللصوص الجرافات في شق البلاط الروماني ونقله من الموقع، أما متحف حماة الأثري فقد تعرض لسرقة العديد من التحف في الأشهر الأولى للثورة السورية، مثل تمثال ذهبي يعود إلى العام الثامن قبل الميلاد ويمثل الإله الآرامي هدد، ولم يتم اكتشاف الفاعل إلى هذه اللحظة.
أما متحف تدمر التابع لمدينة حمص فكان له النصيب الأكبر من السرقة، فقد تم سرقة العديد من القطع الأثرية قبل سيطرة السكان المحليين عليه، وتداول نشاط على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الصور آنذاك، تارة لجنود يلتقطون الصور مع الآثار، وتارة صور لسيارة سوزوكي تحمل داخلها مجموعة من التماثيل الجنائزية التدمرية المكدسة.
تعرضت المتاحف التابعة لمناطق الشمال الشرقي في سورية إلى عمليات السرقة وتهريب الآثار بحكم قربها من الحدود العراقية وسيطرة داعش على تلك الحدود، والتي عُرف عنها تهريب الآثار وبيعها مقابل ملايين الدولارات. ووفقاً للإحصاءات، فقد تم سرقة عشر قطع من متحف دير الزور، كما تعرض متحف قلعة جعبر في محافظة الرقة للسرقة حيث نهبت 17 قطعة أثرية تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وهي من أهم الشواهد المتبقية لموقعي إيمار وتل السلنكحية.
أما في معرة النعمان في إدلب فقد تم سرقة العديد من القطع الأثرية، وتحطم بعضها الآخر نتيجة الحرب الدائرة بين قوات المعارضة والحكومة السورية آنذاك، إلا أن الأهالي حافظو على ما تبقى منه عبر دحر محاولات عديدة لسرقة ما تبقى منه.
أما المسجد الأموي في حلب فقد طالته يد السرقة بعد حرب دارت حوله بين جيش النظام والجيش الحر آنذاك وتم على أثره سرقة مقتنيات أثرية وتاريخية ودينية لا تقدر بثمن، من ضمنها جزء من “الضرس النبوي الشريف”.
هناك العديد من الجوانب التي ساهمت في تهريب الآثار وبيعها مقابل المال، فقد غض النظام السوري الطرف عن العديد من عمليات تهريب الآثار لدعم اقتصاده جيوب فاسديه، وكان ذلك بشكل كبير وممنهج في المناطق الواقعة بين دمشق ودرعا والسويداء، حيث تحدّث شهود عيان لمراسل “سورية اليوم 24” عن قيام قوّات حكومية كبيرة بتنظيم عمليات البحث ونبش الآثار، ونقلها وبيعها إلى تجّار محليين ودوليين.
أما بعض فصائل المعارضة المسلّحة قبل سقوط نظام الأسد، فقامت بتهريب الآثار السورية وباعتها مقابل السلاح وإتخام جيوب فاسديهم أيضاً.
اقرأ أيضاً: لبنان يستعد لإعادة قطع أثرية مصادرة إلى سوريا
عمليات التخريب والتدمير للآثار السورية من قبل تنظيم داعش
وفي عام 2014 أكدت منظمة اليونسكو أن عمليات تنقيب عن الآثار “غير قانونية وشديدة الخطورة” تجري في أنحاء متفرقة من سوريا، وفي مواقع أثرية مهمة مثل مدينة ماري السومرية القديمة ومدن إيبلا وتدمر الصحراوية وأفاميا التي دمرت تماماً، وأنّ بعض المواقع الأثرية دمرت أو نهبت بالكامل، وتصف عمليات التنقيب هذه بالأمر “الخطير والمدمر للغاية”.
كما أوضحت منظمة اليونسكو أن التحف الأثرية المنهوبة في سورية والعراق بـ 7-15 مليار دولار بعد أن قامت داعش بتخريب مواقع إسلامية ومسيحية ويهودية، ونسف أضرحة ودور عبادة يعود تاريخ بناء بعضها لأكثر من عشرة قرون.
وفي 24 يونيو/ حزيران 2015 قام تنظيم الدولة بتفجير ضريحين أثريين إسلاميين في مدينة تدمر، وبث عملية التفجير على الإنترنت، كما قام بتدمير معبد “بعل شمين” الشهير الذي يقع على مقربة من المدرج الروماني بمدينة تدمر الأثرية، وذلك بزرع كميات كبيرة من المتفجرات أدت إلى تحطيمه بالكامل، وفي عام 2015 قال مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي (أف بي آي) أن نهب الآثار بالعراق وسوريا وبيعها في السوق السوداء أصبح مصدر تمويل لتنظيم الدولة.
استمرت عمليات التخريب والنهب والتهريب للآثار السورية مع تسلط تنظيم الدولة داعش على عدد من المناطق، فقام التنظيم بتفجير “معبد بل” الواقع في مدينة تدمر التي تلقب بـ “لؤلؤة الصحراء”، والذي يعود للعصر الروماني ويعد أحد الكنوز الأثرية العالمية، كما قامت بتفجير”أقواس النصر” الأثرية في مدينة تدمر أيضاً.
أما تل عجاجة الواقع في شمال شرقي سوريا ويعود إلى زمن الدولة الآشورية، طالته يد تنظيم الدولة داعش وقامت بتخريب كبير في اجزاءه، فقد حفرت فيه أنفاق يصل طولها إلى نحو 20 متراً في وقت تناثرت تحف أثرية مدمرة في كل أنحائه، فضلاً عن أعمال سرقة ونهب.
والجدير بالذكر أن تنظيم الدولة كان يعتمد خمسة طرق أساسية لجمع الأموال من الآثار تتضمن التراخيص والضرائب وسرقة التحف واستخراج القطع عبر الحفريات الممنهجة والعشوائية والتسويق المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالواتساب وغيرها.
كانت تتم عملية تهريب القطع من سوريا عبر حدود الدول المجاورة لسوريا كلبنان, العراق, الأردن، وتركيا، التي كانت تشكل ممرات أساسية, واعتبرت هذه الدول الإقليمية المجاورة وفي مقدمتها تركيا ممراً حيوياً للكثير من المهربين، بسبب تساهل السلطات فيها معهم، إذ كانت تغض الطرف عن عمليات التهريب حتى عام 2014 وفقاً لبعض التقارير.
اقرأ أيضاً: إعادة إقلاع معمل سماد الكالنترو بطاقة إنتاجية 350 طناً يومياً
اجراءات الحكومة الانتقالية للحفاظ على الآثار ومنع التهريب بعد سقوط النظام
مع سقوط نظام الأسد، بادر العديد من مسؤولي الآثار والمتاحف في سوريا إلى التواصل مع قوات المعارضة السورية التي دخلت المدن لحماية ما تبقى من الآثار، وسرعان ما استجابت الإدارة الجديدة لهذا المطلب وأرسلت قوات لها لحماية تلك المنشآت الأثرية.
وعلى عكس الكثير من الدول التي يسقط نظامها وتتعرض متاحفها للسرقة كالعراق، فإن سوريا حافظت على ما تبقى من آثارها. رغم أنّ هذا لا ينفي حدوث بعض الحوادث كالحريق الذي تعرض له “المعهد التقني للآثار والمتاحف” الواقع في قلعة دمشق، وسرقة بعض القطع من متحف طرطوس.
وفي ظل الغياب الأمني ازدادت عمليات التنقيب والبحث عن الآثار في عدد من المناطق، كطرطوس التي شهدت عمليات تخريب وتنقيب عن الآثار في منطقة عمريت الأثرية، من قبل لصوص الآثار، الذين استغلوا الحالة الأمنية السائدة حالياً للحفر، إضافة إلى اقتحام مجهولين لمتحف جزيرة أرواد في محافظة طرطوس وقاموا بتخريبه وسرقة نحو 38 قطعة أثرية منه، والجدير بالذكر إن هذه السرقة تمت في اليوم التالي لسقوط النظام 8 ديسمبر/كانون الأول الفائت.
ومع سقوط النظام والدخول إلى منازل العديد من المسؤولين، تم العثور على العديد من القطع الأثرية التي تم التنقيب عنها بطرق غير قانونية، وأشار نظير عوض، المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، إلى أن القطع المسروقة من المتاحف يمكن استردادها لأنها موثقة ومسجلة، لكن القطع التي تم التنقيب عنها بشكل غير قانوني يصعب استعادتها، مشيراً إلى أن مئات آلاف القطع توجد حالياً خارج سوريا وتُعرض في مزادات ومعارض دون إمكانية استرجاعها، مما يدل على تورط شخصيات نافذة في تهريبها.
كما أفاد البعض ممّن يعملون في التنقيب غير الشرعي عن الآثار، لمراسل “سورية اليوم 24“، والذين فضّلوا البقاء مجهولين، بأنّ بعض الجهات التي تسيطر على مناطق محددة ثريّة بالآثار في سورية، تمارس نوعاً من التنظيم في نبش ونقل وبيع الآثار، يشبه إلى حدّ كبير ما كانت تفعله سلطة الأسد. فبالقرب من مدينة حماة، تجاه سلميّة، يقوم أناسٌ مسلّحون بتوظيف الكثير من الأشخاص، ومنحهم معدّاتٍ متطوّرة باهظة الثمن للتنقيب عن المعادن، ليقوم هؤلاء بالبحث عن الآثار والقطع الذهبية. ولا يحصل هؤلاء الباحثون على راتب، بل على الحماية، ونسبة ممّا يجدونه، إضافة لوجبات طعامٍ أثناء ورديات عملهم.
يبقى الصوت مرفوعاً من قبل الخبراء والمهتمين بالآثار في سورية مطالبين بحماية ما تبقى من القطع الآثرية ومكافحة عمليات التنقيب غير الشريعة، ومطالبات باستعادة القطع المسروقة التي تعج بها السوق السوداء في الدول الغربية.
اقرأ أيضاً: سوريون يطالبون بالتصدي للتنقيب غير المشروع عن الآثار