ترك الصراع في سوريا على مدار 14 عاماً، إرثاً من الدمار الذي يهدد حياة المدنيين يوماً بعد يوم، إذ تغلغلت الألغام والذخائر غير المنفجرة في الأراضي الزراعية والطرق والمناطق السكنية، وقد تنفجر في أي لحظة، لتجعل من العودة إلى الحياة الطبيعية أمراً مستحيلاً للكثيرين.
تنتشر فِخاخ الموت هذه في مساحات شاسعة من الأراضي السورية، وتتركز أكثر في محافظات مثل حلب، إدلب، الرقة، دير الزور، الحسكة وحمص، وتؤدي عند انفجارها إلى إصابات بالغة، من بتر الأطراف إلى تمزق الأنسجة وتضرر الحواس، وقد تصل إلى الموت، ولا تهدد حياة المدنيين فقط، بل تعرقل أيضاً جهود إعادة الإعمار، فتقف عائقاً أمام إصلاح البنية التحتية الأساسية، مثل المياه والكهرباء والاتصالات.
في هذا الصدد، كشف جوزيف مكارتان، رئيس برنامج دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (أونماس) في سوريا، أن سوريا على رأس قائمة البلدان المتضررة من الذخائر غير المنفجرة خلال ثلاث من السنوات الأربع الأخيرة.
وأوضح في تصريح مطلع آذار الماضي، أن عدد الضحايا ارتفع بصورة ملحوظة منذ كانون الأول 2024، لافتاً إلى أن نقص التمويل خلال السنوات الماضية عرقل جهود إزالة الألغام، وتسبّب في غياب خرائط دقيقة لمناطق التلوث، إلا أن التحولات السياسية الأخيرة تفتح الباب لتوسيع عمليات الإزالة وزيادة عدد المنظمات العاملة في هذا المجال.
اقرأ أيضاً: مزارعو الحسكة بين أرض عطشى وأمل مفقود!
الألغام تلتهم الأرواح كل يوم
وتواصل الألغام الأرضية غير المنفجرة حصد الأرواح في البلاد، ليصل عدد الضحايا إلى أرقام صادمة تؤكد حجم الكارثة الإنسانية.
فمنذ عام 2011 وحتى نهاية 2024، وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل ما لا يقل عن 3521 مدنياً بينهم 931 طفلاً بسببها، إلى جانب أكثر من 10 آلاف إصابة
ووثّق مرصد الألغام الأرضية مقتل أكثر من 900 شخص في عام 2023 وحده، ما وضع سوريا في المرتبة الثانية عالمياً من حيث عدد ضحايا الألغام بعد بورما.
ومنذ 8 كانون الأول 2024، وتزامناً مع التحولات السياسية التي دفعت بموجات جديدة من السكان للانتقال عبر خطوط المواجهة السابقة، ارتفع عدد الضحايا، فقد سُجِّلت 748 إصابة بين ذلك التاريخ و25 آذار 2025، منها أكثر من 500 إصابة منذ بداية العام الجاري فقط، مقارنة بـ912 إصابة طوال عام 2024.
من جانبها، قدّرت منظمة “هانديكاب إنترناشونال” أن نحو 15 مليون سوري معرضون لخطر ما بين 100 إلى 300 ألف ذخيرة غير منفجرة منتشرة في البلاد بعد 14 عاماً من الصراع، مؤكدةً أن هذا الخطر لا يهدد مناطق بعينها، بل يشمل أنحاء سوريا كافة.
اقرأ أيضاً: الخوذ البيضاء وفرق «لخويا» القطرية: تعاون مثمر ضمن خطة مدروسة
نقص التمويل يعوّق إزالة الألغام
ومع تزايد أعداد ضحايا الألغام، تتعالى أصوات الدعوات لتكثيف التعاون بين الجهات المحلية والدولية من أجل دعم عمليات إزالة الألغام وتأمين المناطق المتضررة، وتهيئة الظروف اللازمة لعودة النازحين وإعادة إعمار البلاد.
ورغم المخاطر الكبيرة، يواصل الدفاع المدني السوري جهوده في إزالة الألغام، وسط تحديات كبيرة أهمها غياب خرائط دقيقة توثق أماكن انتشار هذه المتفجرات.
ويعدّ نقص التمويل من أهم العوائق، إذ يفتقر قطاع مكافحة الألغام للدعم الكافي، فلم يتم تغطية سوى 13% من متطلبات خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2024، ويؤكد العاملون في المجال الإنساني أن هناك حاجة ملحّة لتمويل عاجل يتيح توسيع استجابة الشركاء وضمان توفير بيئة آمنة للسوريين الراغبين في العودة إلى ديارهم.
اقرأ أيضاً: الريف الأوسط في سوريا: أرض تقاوم الفناء
وفي السياق ذاته، وبمناسبة اليوم العالمي للتوعية بمخاطر الألغام الذي صادف يوم أمس 4 نيسان، دعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى تحرك عاجل لمواجهة التهديد المتصاعد الذي تمثله الألغام في سوريا.
وأكد رئيس بعثة الصليب الأحمر في سوريا، ستيفان ساكاليان، أن الألغام تسببت بمآسٍ متكررة، ولفت إلى أن التطورات الأخيرة، بما فيها وجود مركبات عسكرية مهجورة ومخازن ذخائر غير آمنة، ساهمت في ارتفاع عدد الضحايا.
كما أشار ساكاليان إلى أن الأزمة الاقتصادية أجبرت الكثير من الناس على المخاطرة بحياتهم من خلال جمع الخردة المعدنية من مواقع ملوثة، ما يعرضهم لخطر جسيم، مؤكداً ضرورة تكثيف جهود التوعية المجتمعية وتوسيع نطاق عمليات إزالة الألغام، بما يساهم في حماية الأرواح.
ختاماً، لا يمكن لأحد أن يتوهم بأن الجيوش المتحاربة تزرع الورود في ساحات الحرب، بل تزرع الموت في كل خطوة، موتٌ ينتظر بصمت لحظة انفجاره ليُهلك كل من يفكر بالاقتراب منه، ورغم أن القانون الدولي بقوانينه الحالمة، مثل اتفاقية حظر استعمال وتكديس وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الألغام، أو البروتوكول الخامس بشأن مخلفات الحرب من المتفجرات، يفرض إزالة مخلّفات الحروب من مناطق النزاع، إلا أن الواقع يؤكد لنا أنه مجرد كلام يتطاير وسط عاصفة لا يُسمع فيها إلا صوت الرياح.
وعلى مدى عقود وحتى هذه اللحظة، تبقى الألغام قضية شائكة، يفاقمها غياب خرائط دقيقة لمواقعها، وكأن الأرض ترفض أن تبوح بأسرار الموت التي ابتلعتها.
اقرأ أيضاً: القمح السوري: مواصفات عالمية تحجبها التحديات!