في قلب سوريا، يقف الريف الأوسط، الذي كان يوماً ما مجموعة متناغمة من الحقول الخصبة والمجتمعات النابضة بالحياة، شاهداً على ندوب الحرب المستمرة، وانهيار البيئة، والانهيار الاقتصادي. هذه المنطقة، التي كانت تشكل العمود الفقري للثروة الزراعية السورية، تحولت إلى مشهدٍ من الخراب والمعاناة، الذي إن لم يزل سيعني انهياراً أكبر لما بقي جميلاً في سورية.
الحقول التي تذبل
كانت سهول الريف الأوسط السوري تزخر بمحاصيل القمح والشعير وأشجار الزيتون، لكنها اليوم تعاني من تدهورٍ كارثي. دمرت الحرب الأهلية الطويلة البنية التحتية الزراعية، مما أدى إلى خسائر فادحة قُدّرت بأكثر من 16 مليار دولار في القطاع الزراعي بين عامي 2011 و2016. يواجه المزارعون، الذين كانوا يعملون في أراضيهم بفخر، اليوم واقعاً مريراً من الحقول الجرداء وسبل العيش المدمّرة، يجبرهم على البحث عن “رغيف الخبز” الذي يحشون به أنفسهم.
يُفاقم هذه المأساة تأثيرُ التغير المناخي. فقد شهدت المنطقة موجات جفاف شديدة، خصوصاً بين 2006 و2011، مما أدى إلى تفاقم أزمة ندرة المياه وإفلاس العديد من المزارعين، وهو السيناريو السيء الذي قد يعيد تكرار نفسه بعد أن شهدنا شحّ الأمطار هذا الموسم. لم تعد المواسم الزراعية تسير وفق أنماطها المعتادة، بل تحولت إلى كابوسٍ من الفشل المتكرر، تاركةً التربة متشققةً والمستقبل غامضاً.
القرى المهجورة
كما تذبل الأرض، كذلك تذبل القرى التي تنتشر في الريف الأوسط. أجبر النزاع الوحشي ملايين السوريين على الفرار من منازلهم، هرباً من دوامة العنف التي ابتلعت مجتمعاتهم. ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فإن أكثر من نصف سكان سوريا قبل الحرب قد نزحوا، مما حوّل القرى التي كانت تعج بالحياة إلى مدن أشباح. وجميع الأخبار المُفرحة التي نقرأها عن عودة النازحين واللاجئين، لم ترقَ بعد إلى عودة رأسمال سورية البشري بشكل فاعل.
أما من بقي في المنطقة، فهو عالقٌ في صراعٍ يومي من أجل البقاء. فقد انهارت الخدمات الأساسية تماماً، ولم يعد هناك نظام صحي، أو تعليم، أو حتى أبسط المرافق الضرورية للحياة. وتؤكد تقارير المنظمات الإغاثية، مثل المجلس النرويجي للاجئين، أن حجم الدمار وغياب الخدمات هما العائقان الأكبر أمام عودة النازحين.
ظلال الحرب
لم يسلم الريف الأوسط من وحشية العنف الأهلي. فقد اجتاحت الهجمات، وبعدها الهجمات الانتقامية العديد من القرى، مخلفةً وراءها مشاهد دامية، ومؤججةً نار الكراهية التي قسمت المجتمعات المحلية. ففي قرى مثل عرزة، تسببت هجمات انتقامية في وقوع عشرات القتلى، مما يعكس مدى الانقسامات العميقة التي مزقت النسيج الاجتماعي للمنطقة.
جعلت هذه الدوامة من العنف المصالحة أمراً بعيد المنال. فلا يزال الخوف من الانتقام، والتداعيات التي تترتّب عليه، يُلقي بظلاله على أي محاولات لإعادة بناء الثقة بين سكان القرى، مما يزيد من تعقيد الجهود الرامية إلى تحقيق السلام والاستقرار.
بريق الأمل الخافت
رغم كل هذا الخراب، تظل هناك ومضاتٌ خافتة من الأمل. فقد عاد بعض المزارعين، بدافع من ارتباطهم العميق بأرض أجدادهم، لمحاولة استصلاح التربة المنهكة. ولكنهم يواجهون تحديات هائلة، من ارتفاع تكاليف البذور والأسمدة إلى التقلبات المناخية التي تهدد أي محصولٍ بالكاد ينبت، ناهيك عن توقّف الإجراءات الخجولة جداً التي كانت تعينهم، مثل المحروقات المدعومة.
إن طريق التعافي مليءٌ بالعقبات. فالحكومة الجديدة، التي خرجت من رماد الحرب، تواجه مهمة شديدة الصعوبة في إعادة بناء اقتصاد مدمر، حيث يعيش أكثر من 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر. كما أن المساعدات الدولية لا تزال غير مستقرة، إذ يتردد العديد من المانحين في تقديم الدعم في ظل المشهد السياسي غير الواضح في سوريا. إنّ الواقع المعيشي للسوريين عموماً، وخصوصاً الريفيين، مهددٌ بالدمار أكثر دون إجراءات وخطط فاعلة، مُستدامة، وغير ترقيعية.
في الختام…
يقف الريف الأوسط السوري اليوم شاهداً على الدمار الذي تسببت به الحرب، وانهيار البيئة، والمعاناة البشرية. ومع ذلك، وبين ركام المنازل المهجورة والحقول القاحلة، لا تزال هناك خيوطٌ رفيعة من الصمود، متمثلة في المزارعين العائدين، والأمل في استعادة الحياة، ولو ببطء. لكن يبقى السؤال قائماً: هل يمكن لهذه الأرض المنهكة وسكانها المرهقين أن يستعيدوا يوماً ما مجدهم المفقود؟
اقرأ أيضاً: فريق إنسان التطوعي يبدأ أعماله الإنسانية في حلب وحمص