في عام 2015، اتخذت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل قراراً إنسانياً فارقاً بفتح أبواب ألمانيا أمام آلاف اللاجئين السوريين الذين فروا من ويلات الحرب في سوريا، وأطلقت حينها حملة تشجيعية لدمجهم في المجتمع الألماني، على أن تكون هذه العملية متبادلة، توفر للاجئين الأمان والفرص التي يبحثون عنها، بينما يساهمون بدورهم في إثراء الاقتصاد والمجتمع الألماني.
وبالفعل مع مرور الزمن، شهدت ألمانيا زيادة كبيرة في عدد السوريين الذين استقروا فيها، ومع ذلك، يبدو أن هذا العدد شهد انخفاضاً طفيفاً في الآونة الأخيرة، ما أدى إلى تغيير الوضع الراهن.
وقد يظن الكثير من الناس أن انخفاض الأعداد تعزى إلى عودة السوريين إلى وطنهم بعد سقوط نظام بشار الأسد، ولكن الأمر ليس كذلك، فقد أصبح اللاجئون الذين وصلوا إلى ألمانيا في عامي 2015 و2016 الآن مؤهلين للحصول على الجنسية الألمانية، ومن المعروف أن الأشخاص الذين يصبحون مواطنين ألمان لا يتم تسجيلهم كأجانب، وإن كانوا يحملون جنسية أخرى بجانب الألمانية.
وفي هذا الصدد، أكدت وزارة الداخلية الألمانية، بناءً على بيانات السجل المركزي للأجانب، أن عدد السوريين المقيمين في ألمانيا حتى نهاية شهر آذار الماضي قد بلغ 968,899 شخصاً، من بينهم، كان هناك 10,729 شخصاً ملزمين بمغادرة البلاد، أما البيانات حتى نهاية شباط الماضي فأشارت إلى عدد أكبر بلغ 972,470 شخصاً، ما يعني انخفاضاً قدره 3,571 سورياً حتى آذار.
اقرأ أيضاً: أيّ دور ممكن أن تلعبه ألمانيا في ملف «إعادة الإعمار» داخل سوريا؟
تجنيس السوريين في ألمانيا
كشفت دراسة أجراها المجلس الاستشاري الألماني للاندماج والهجرة (SVR) في عام 2023، أن ألمانيا ستشهد تجنيس ما لا يقل عن 22 ألف سوري سنوياً ابتداءً من عام 2024.
وبحسب بيانات المجلس، حصل حوالي 6700 سوري على الجنسية الألمانية في عام 2020 فقط، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 73.6% مقارنة بالعام الذي سبقه، وبهذا، بات السوريون من بين الجاليات الأكثر حصولاً على الجنسية الألمانية بفضل اندماجهم السريع، كما أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي في مايو 2023 أن أعداد السوريين الذين حصلوا على الجنسية الألمانية تضاعفت أكثر من مرة ونصف في عام 2022 مقارنة بعام 2021.
ويتصدر السوريون في ألمانيا اليوم قائمة الأجانب المجنسين، بعد أن استوفى العديد منهم، ممن وصلوا بين 2014 و2016، شروط الحصول على الجنسية، وتنص هذه الشروط على ألّا يكون الشخص قد ارتكب أي جريمة وأن يكون قد اعتمد على نفسه مالياً خلال فترة إقامته، وأن يكون قد أتقن اللغة الألمانية، وفي حال استوفى اللاجئ المعترف به الشروط اللازمة، يمكن تقليص فترة الإقامة المطلوبة للحصول على الجنسية من ثماني سنوات إلى ست سنوات.
اقرأ أيضاً: اللاجئون السوريون محور لقاء الوزيرة قبوات مع نظيرتها اللبنانية
رحلة الاندماج
وفي دراسة أخرى لتحليل واقع السوريين في ألمانيا ورحلة اندماجهم، تم الكشف أن العديد منهم تمكنوا من تحقيق نوع من الاستقرار بعد تجاوز المعوقات الأساسية مثل الإقامة، تعلم اللغة، البحث عن مسكن والعمل أو الدراسة، إذ انتقلوا من مرحلة تأسيسية إلى مرحلة استقرارية، ومع ذلك ظهرت تحديات جديدة تتعلق بنمط الحياة في ألمانيا.
وبينت الدراسة أن المتغيرات الاجتماعية مثل العمر والوضع العائلي تؤثر في عملية الاندماج، فالأشخاص الذين بلغوا سن 35 أو 40 عاماً قد يواجهون صعوبات أكبر مقارنة بالشباب، كما أن النساء يظهرون قدرة أكبر على الاندماج من الرجال، أما فيما يخص الأماكن الجغرافية، فقد تبيّن أن الاندماج أسهل في المدن المتوسطة الحجم مقارنة بالمدن الكبرى والأرياف، وأن المقاطعات الشرقية أقل ترحيباً باللاجئين.
وعلى الصعيد الاجتماعي، فقد تمكن أغلب السوريون في ألمانيا من بناء علاقات اجتماعية مع المجتمع المضيف، رغم ذلك يواجه العديد منهم ضغوطات نفسية بسبب الوضع في سوريا، مثل التعامل مع الأخبار المتعلقة بالوطن واحتياجات العائلة، ما أدى بدوره إلى قلة انخراطهم في المنظمات السياسية أو النقابية، بسبب تجارب سابقة في بلادهم، إضافة إلى تحديات الحياة في ألمانيا
وفيما يتعلق بتعلم اللغة والمشاركة في سوق العمل، أظهرت الدراسة أن العديد من السوريين تمكنوا من تعلم اللغة الألمانية والانخراط في مجالات عمل متنوعة، رغم التحديات القانونية مثل الاعتراف بالشهادات ومشاكل اللغة، كما لفتت إلى أن العثور على عمل مشكلة لا تزال تواجههم بسبب العنصرية أحياناً.
إلى جانب ذلك، أشارت الدراسة إلى رغبة البعض في الانتقال إلى بلد آخر نتيجة للضغوط النفسية والعنصرية وصعود اليمين المتطرف، ولكن في الوقت نفسه، أغلبهم لا يرغب في العودة إلى سوريا إلا في حال تحقق حل سياسي شامل.
اقرأ أيضاً: قرارات الحكومة الألمانية الجديدة تحبط اللاجئين السوريين
السوريون في ألمانيا.. العمل والتعليم
في عام 2023، كان 42% من السوريين في ألمانيا والذين تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عاماً يعملون، بينما كان 8% منهم يبحثون عن عمل دون أن يجدوا وظيفة، وفقاًلبيانات نشرها مكتب الإحصاء الألماني الاتحادي في 13 ديسمبر 2024.
وتكشف البيانات أن نصف السوريين في سن العمل في ألمانيا، أي حوالي 435 ألف شخص، غير متاحين لسوق العمل بسبب عوامل مختلفة، مثل التدريب المستمر أو غياب تصريح العمل أو أسباب صحية، وأن 19% منهم في سن العمل لا يزالون في مرحلة التعليم أو التدريب المهني، وهي نسبة أعلى بكثير مقارنة ببقية المهاجرين أو المواطنين الألمان.
وتشير البيانات إلى أن 22% من السوريين في ألمانيا لديهم مؤهلات مهنية، فيما يعد العدد الإجمالي للأطباء السوريين في البلاد 5758 طبيباً، ليشكلوا بذلك أكبر مجموعة من الأطباء الأجانب في ألمانيا، ورغم ذلك، يعاني العديد من السوريين من تحديات في سوق العمل، مثل نقص المهارات اللغوية أو التعليم المعترف به، ما يساهم في انخفاض معدل التوظيف بينهم.
وفي مجال التعليم، تبيّن الإحصائيات إلى أن 206,000 طالب سوري درسوا في المدارس العامة في ألمانيا للعام الدراسي 2023/2024، بينما التحق حوالي 56,100 سوري بالتعليم المهني.
اقرأ أيضاً: من ألمانيا إلى سوريا: «حملة شفاء» بقعة ضوء وسط الظلام
مصير اللاجئين بعد سقوط الأسد
بعد سقوط نظام بشار الأسد بأيام قليلة، حذرت نقابة فيردي العمالية في ألمانيا من إمكانية تنفيذ عمليات ترحيل واسعة للسوريين، مشيرة إلى أن هذه الإجراءات تتناقض مع مصالح الأفراد وسوق العمل في بعض المناطق، وأكد فرانك فيرنكه، رئيس النقابة، أن السوريين الذين اندمجوا في سوق العمل الألماني يشكلون جزءاً مهماً من الاقتصاد، إذ يعمل العديد منهم في مجالات مثل التجزئة، خدمات التوصيل والرعاية الصحية.
ودعا فيرنكه حينها الحكومة الألمانية والاتحاد الأوروبي إلى متابعة الوضع في سوريا عن كثب، مضيفاً أن السوريين في ألمانيا يراقبون التطورات في بلادهم، ويأملون في العودة إلى سوريا في حال تحققت الظروف المناسبة، ورغم تفاؤل البعض، أكد أنه من الضروري انتظار مزيد من التوضيح حول ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا قبل اتخاذ قرارات بشأن العودة.
وفي خطوة جديدة تم الإعلان عنها يوم أمس الجمعة، بدأت السلطات الألمانية بمراجعة وضع أكثر من 2000 لاجئ، من بينهم مئات السوريين، تمهيداً لسحب إقاماتهم، وذلك بعد اكتشاف أنهم قاموا بزيارة بلدانهم الأصلية خلال الأشهر الماضية، وهو ما اعتبرته الحكومة الألمانية دليلاً على عدم حاجتهم للحماية.
فوفقاً للقوانين السارية في ألمانيا، يفقد اللاجئ حق الحماية إذا سافر إلى وطنه، إلا إذا كان السفر ضرورياً لأسباب إنسانية، مثل مرض شديد أو وفاة أحد الأقارب. وبالطبع يجب على اللاجئ إبلاغ السلطات بهويته ومغادرته مسبقاً.
وفي ردّ على استفسار من صحيفة “فيلت”، أعلن المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF) عن فتحه 2157 ملفاً لمراجعة حالات سحب الحماية من لاجئين سافروا إلى بلدانهم بين 1 نوفمبر 2024 و31 مارس 2025، واحتلت العراق المرتبة الأولى من حيث عدد الحالات، تلتها سوريا، ثم أفغانستان وإيران وتركيا.
وفيما يتعلق بسوريا، لفت المتحدث إلى أنه تم تعليق الإجراءات مؤقتاً بسبب عدم استقرار الأمن حتى الآن، لكن عموماً قد تُسحب الحماية في حال تحسن الأوضاع الأمنية أو إذا ارتكب اللاجئ جرائم جسيمة.
وفي تطورات أخرى، أعلنت وزارة الداخلية الألمانية عن نية الحكومة السماح للاجئين السوريين بزيارة بلدهم بشكل مؤقت دون فقدان حق الحماية، بشرط أن تكون الزيارة ضمن “شروط صارمة”، وتكون عبارة عن فرصة تقييم الأوضاع في بلادهم، مثل حالة منازلهم وأفراد أسرهم، لكن هذه الخطط قوبلت بمعارضة شديدة من الحزب المسيحي الاجتماعي، الذي من المتوقع أن يتولى وزارة الداخلية في الحكومة القادمة.
في الوقت ذاته، أفادت وزارة الداخلية أن 464 لاجئاً سورياً عادوا طوعاً إلى سوريا منذ سقوط النظام، بتمويل من المكتب الاتحادي للهجرة.
ومنذ عام 2017، أطلقت ألمانيا برامج لدعم العودة الطوعية، وفي عام 2024، عاد 87 لاجئاً سورياً من خلال هذه البرامج، بينما عاد 31 شخصاً آخر حتى الآن في عام 2025.
جدير بالذكر أنه لم يتم تنفيذ أي عمليات ترحيل للاجئين السوريين إلى سوريا منذ عام 2012، وفي الحالات التي يُجبر فيها طالبو اللجوء السوريين على مغادرة ألمانيا، يتم نقلهم إلى دولة أوروبية أخرى تكون مسؤولة عن إجراءات اللجوء وفقاً لما يُعرف بقواعد دبلن.
اقرأ أيضاً: سوريا بعد الحرب.. القطاع الصحي مشلول والشعب يدفع الثمن!
هل يرغب السوريون بالبقاء في ألمانيا؟
وفقاً لمسح دوري أجراه معهد (IAB) قبل سقوط نظام الأسد، أعرب 94% من السوريين الذين دخلوا ألمانيا بين عامي 2013 و2019 عن رغبتهم في الاستقرار الدائم في ألمانيا، لكن مع تغير الأوضاع السياسية في سوريا، بدأ الحديث عن نوايا العودة يلوح في الأفق.
ويوضح مدير معهد برلين للاندماج وأبحاث الهجرة (BIM) هربرت بروكر، أن رغبة اللاجئين في العودة إلى بلادهم تقل مع مرور الوقت، فكلما طالت مدة إقامتهم في ألمانيا، زادت ارتباطاتهم الاجتماعية والاقتصادية، ما يجعلهم لا يفضلون العودة إلى سوريا.
وأشار بروكر إلى أن الأطر القانونية تلعب دوراً مهماً، فعندما يتوفر للاجئ خيار العودة إلى بلده الأم مع ضمان إمكانية العودة إلى بلد اللجوء، فإن ذلك يزيد من فرص عودته، وبالنسبة للسوريين الحاصلين على الجنسية الألمانية، فإنهم أكثر استعداداً للعودة إلى سوريا سواء بشكل مؤقت أو دائم، نظراً لامتلاكهم الحق في العودة إلى ألمانيا في أي وقت، أما السوريون الذين لم يحصلوا على الجنسية، فيواجهون تحديات قانونية قد تجعل قرار العودة محفوفاً بالمخاطر.
ومع ذلك كله ورغم سقوط النظام، تظهر الإحصاءات أن العديد من السوريين في ألمانيا لا يزالون مترددين بشأن العودة إلى وطنهم، فوفقاً للمتحدث باسم مجلس مدينة دريسدن، ألكسندر بوخمان، من بين أكثر من 7,000 سوري يعيشون في المدينة، هناك أربعة فقط أبدوا رغبتهم في العودة إلى سوريا بعد سقوط النظام.
وفي ولايات سكسونيا، سكسونيا-أنهالت، وتورينغن، حيث يقيم حوالي 90,000 سوري، لم يتقدم سوى 59 شخصاً في سكسونيا-أنهالت بطلبات للحصول على استشارات بشأن العودة الطوعية والمساعدات المالية، أما في ولاية تورينغن، فقد أبدى عدد قليل جداً من السوريين اهتماماً بالعودة.
ختاماً، يعيش السوريون في ألمانيا وضعاً معقداً بين التحديات والفرص في آنٍ معاً، فعلى الرغم من رغبتهم في العودة إلى بلادهم بعد التطورات السياسية، إلا أنهم يواصلون بناء حياتهم الجديدة في ألمانيا، محققين تقدماً كبيراً في مجالات العمل والتعليم… ومع استمرار تطور الأوضاع في سوريا وعدم استقرارها، يبقى قرار العودة معلقاً بين تطلعاتهم لمستقبل أفضل هناك وبين الواقع الصعب الذي تفرضه الظروف.
اقرأ أيضاً: أسواق سوريا اليوم: الأسعار متقلبة والمواطنون تحت الضغط!