لطالما ارتبطت دمشق وموسكو بعلاقات استراتيجية استمرت لعقود، إلا أن التطورات الأخيرة فرضت واقعاً جديداً قد يعيد رسم خريطة الحضور الروسي في سوريا. ففي أعقاب التغيرات السياسية الكبرى التي شهدتها البلاد، بات من الضروري إعادة النظر في الاتفاقيات القديمة، لا سيما فيما يتعلق بالوجود العسكري الروسي والمصالح الاقتصادية المتبادلة. فماذا جرى في اللقاء الأخير بين الرئيس السوري أحمد الشرع وميخائيل بوغدانوف في دمشق؟ وحول ماذا دار الحديث؟
قبل أسابيع قليلة، دخلت الحكومة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، في مفاوضات دقيقة مع موسكو بهدف إعادة صياغة العلاقة بين البلدين بعد رحيل بشار الأسد إلى روسيا عبر قاعدة حميميم أواخر العام الماضي. ووفق المصادر المختلفة، تسعى دمشق في هذه المرحلة إلى التفاوض حول مستقبل القواعد العسكرية الروسية على أراضيها، إلى جانب المطالبة بتعويضات مالية عن تكاليف الحرب ودعم دبلوماسي من موسكو مقابل استمرار التعاون.
ملفات شائكة على طاولة النقاش
التقى رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع بمبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ميخائيل بوغدانوف، لبحث قضايا متعددة، من بينها: الديون السورية المستحقة لموسكو، واستعادة الأموال السورية المودعة في روسيا، وتحديد موقف موسكو من مصير الأسد.
ووفقاً لتقرير نشرته «رويترز»، فإن مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا بات رهيناً بقرارات القيادة الجديدة. فرغم أن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع لا يبدو متحمساً لإنهاء الوجود الروسي بالكامل، إلا أنه يهدف إلى إعادة التفاوض على شروط الاتفاقيات السابقة، بما في ذلك عقد الإيجار طويل الأمد لقاعدة طرطوس واتفاقية الوجود العسكري في حميميم.
وحتى الآن، من غير المرجح أن تتخلى موسكو عن حضورها العسكري، إلا أن البعض يرى على إمكانية التوصل إلى تسوية تقوم على تقديم روسيا دعماً دبلوماسياً ومالياً مقابل استمرار وجودها في سوريا.
اقرأ أيضاً: سوريا وروسيا.. ما جديد العقود المبرمة بين البلدين؟!
ورغم التخفيف الجزئي للعقوبات الأوروبية والأمريكية على سوريا، إلا أن البلاد لا تزال تعاني من قيود اقتصادية كبيرة، وبحسب دبلوماسي في حكومة دمشق، فإن الإدارة السورية الجديدة مستعدة «للتعامل بمرونة مع جميع الأطراف» إذا كان ذلك يخدم المصالح الوطنية.
من جانبها، ترى آنا بورشيفسكايا، الباحثة في معهد واشنطن، أن موسكو لا تزال تملك أدوات ضغط قوية، مؤكدةً أن «روسيا متجذرة في سوريا بشكل يصعب تجاوزه».
في حين لم يُبدِ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اهتماماً كبيراً بسوريا منذ توليه منصبه، فإن الموقف الأمريكي الرسمي يرى في رحيل الأسد فرصة لتقليص النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة. بالمقابل، فإن «إسرائيل»، الحليف الوثيق لواشنطن، تفضل الإبقاء على الدور الروسي كورقة موازنة أمام الحضور التركي والإيراني.
الديون السورية والمطالب المالية
وخلال اجتماع رفيع المستوى، طالب الرئيس الانتقالي أحمد الشرع بإلغاء القروض الضخمة التي تحملتها سوريا خلال عهد الأسد، والتي تُقدر بين 20 و23 مليار دولار. كما طالب باستعادة الأموال السورية التي يُعتقد أن الأسد أودعها في موسكو، إلا أن الجانب الروسي نفى وجود مثل هذه الحسابات، ما يفتح الباب أمام مزيد من التعقيدات في المفاوضات.
ورداً على التساؤلات حول مستقبل القواعد الروسية، اكتفى المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف بالقول إن «الاتصالات مستمرة مع دمشق»، بينما أشار سيرغي ماركوف، المستشار السابق للكرملين، إلى أن «الحكومة السورية الجديدة لا تعتبر روسيا عدواً، لكنها تطالب بتقديم حوافز ملموسة مقابل استمرار التعاون».
اقرأ أيضاً: بوغدانوف التقى وفداً من منصة موسك الموسعة للمعارضة السورية
تعويضات الحرب وإعادة الإعمار
من بين المطالب التي تطرحها دمشق على طاولة التفاوض، مسألة تعويضات الحرب، حيث تُقدّر لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) تكلفة إعادة الإعمار بنحو 400 مليار دولار. وبينما تبدو موسكو غير مستعدة لتحمل مسؤوليات مباشرة، فقد تعرض تقديم مساعدات إنسانية كبديل.
ختاماً، وفي ظل المعطيات الحالية، تبدو العلاقات الروسية السورية مقبلة على مرحلة إعادة هيكلة شاملة، حيث تسعى دمشق -كما يبدو- إلى تقليل الحضور الروسي دون الدخول في مواجهة مباشرة، بينما تعمل موسكو على تأمين مصالحها الاستراتيجية بأقل تنازلات ممكنة…