لطالما مثّل ملف طباعة العملة السورية محورًا أساسيًا في السياسات النقدية للدولة، لا سيما منذ اندلاع الثورة في عام 2011 وما تبعها من عقوبات اقتصادية صارمة فرضها الغرب.
ففي العقود الماضية، اعتمدت سوريا على دول أوروبية، أبرزها النمسا وسويسرا، لطباعة أوراقها النقدية مستفيدة من خبراتهما الطويلة وتقنياتهما المتقدمة في هذا المجال، إلا أن العقوبات الغربية دفعت دمشق إلى الاتجاه نحو موسكو، التي تولت مهمة طباعة الليرة السورية منذ عام 2012، ضمن إطار الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
ومؤخرًا، كشفت تقارير مصرفية عن سعي سوريا لإيجاد بدائل جديدة في أوروبا لطباعة عملتها، حيث تبرز النمسا كخيار مفضل تليها سويسرا، ورغم أن هذا التوجه يبدو مفاجئًا، إلا أنه يعكس تحولات أعمق على الصعيدين السياسي والاقتصادي، في ظل مساعي الحكومة السورية لتقليل اعتمادها على روسيا التي تواجه ضغوطًا اقتصادية متزايدة بسبب حربها في أوكرانيا والعقوبات المفروضة عليها.
ويمثل هذا التوجه نحو أوروبا خطوة تحمل أبعادًا تتجاوز الجوانب الفنية، إذ قد تمهد لإعادة رسم بعض ملامح العلاقات الاقتصادية لسوريا، لكنها في المقابل تطرح تساؤلات جوهرية حول كيفية تجاوز العقوبات الأوروبية، التي لا تزال تشكل عائقًا رئيسيًا أمام أي انفتاح اقتصادي محتمل تجاه دمشق.
طباعة العملة: بين الحاجة الاقتصادية والمخاطر التضخمية
شهدت الليرة السورية تدهورًا مستمرًا في قيمتها، نتيجة لتراكم مجموعة من العوامل، في مقدمتها العقوبات الاقتصادية، وتراجع الإنتاج المحلي، وتآكل الثقة بالاقتصاد الوطني، وفي محاولة لتأمين الإنفاق العام، وسداد الرواتب، ومعالجة العجز المالي، تلجأ الحكومة إلى طباعة المزيد من العملة، إلا أن هذه العملية تتم غالبًا دون وجود غطاء اقتصادي حقيقي، ما يؤدي إلى تفاقم التضخم وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين.
ومن الناحية الاقتصادية، يفترض أن تستند أي عملة إلى أصول واقعية مثل احتياطات الذهب أو العملات الأجنبية، أو إلى قاعدة إنتاجية قوية تضمن التوازن بين حجم النقد المتداول والسلع والخدمات المتوفرة.
غير أن هذا التوازن مفقود في سوريا، حيث يعاني الإنتاج من ضعف حاد، وتكاد الصادرات تتلاشى، بينما يتراجع الاستثمار إلى أدنى مستوياته، ونتيجة لذلك، فإن أي توسع في طباعة العملة يؤدي تلقائيًا إلى انخفاض أكبر في قيمة الليرة، وارتفاع مستمر في الأسعار داخل الأسواق المحلية.
مفاهيم خاطئة تحتاج إلى تصحيح
تنتشر العديد من المعلومات المغلوطة حول طباعة العملة السورية، ما يؤدي إلى تكوين تصورات غير دقيقة بشأن أسباب تدهور الليرة.
ومن أبرز هذه المفاهيم الخاطئة الاعتقاد بأن طباعة العملة في أوروبا ستعيد إلى الليرة قيمتها، بينما الواقع يؤكد أن مكان الطباعة لا يؤثر على قيمة العملة، فالعامل الحاسم هو قوة الاقتصاد المحلي ومدى ثقة المواطنين والمستثمرين به، حتى وإن تم طباعة الليرة في أرقى المطابع الأوروبية، فإن ذلك لن يغير من قيمتها إذا لم يكن هناك إنتاج فعلي يدعمها.
ومن المفاهيم الشائعة أيضًا الاعتقاد بإمكانية طباعة المزيد من الأموال لحل الأزمة الاقتصادية، وهو تصور خاطئ من الناحية الاقتصادية، إذ أن زيادة الكتلة النقدية دون أن يقابلها نمو في الإنتاج تؤدي إلى التضخم، أي ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للعملة.
وقد شهدت دول مثل فنزويلا وزيمبابوي هذا النوع من الأزمات، حيث أدى الإفراط في الطباعة النقدية إلى انهيار شبه كامل في قيمة العملة، كما يظن البعض أن سوريا لم تلجأ في السابق إلى طباعة عملتها في أوروبا، وهذا غير دقيق.
قد اعتمدت البلاد، قبل عام 2012، على دول مثل النمسا وسويسرا لطباعة أوراقها النقدية، بل إن هناك تجارب أقدم تعود إلى خمسينيات القرن الماضي عندما تمت الطباعة في فرنسا، وبالتالي فإن العودة إلى الطباعة في أوروبا ليست تحولًا جديدًا، بل استئنافًا لما كان قائمًا قبل اندلاع الحرب.
اقرأ أيضاً: الليرة السورية.. تحسنٌ هشّ أم مؤشر لانتعاشٍ اقتصادي؟
“ليرتنا عزنا”: عندما تتحول الأزمة إلى سخرية
في ظل الانهيار المتواصل لليرة السورية، ظهرت حملات شعبية تهدف إلى دعم العملة الوطنية، وكان من أبرزها حملة “ليرتنا عزنا” التي انتشرت قبل عدة سنوات.
وهذه الحملة حاولت أن ترفع من قيمة الليرة على المستوى المعنوي، من خلال مبادرات رمزية شملت بيع بعض السلع بليرة سورية واحدة، رغم أن هذه الفئة المعدنية لم تعد متداولة فعليًا منذ عام 2013.
ومع تصاعد الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، تحولت الحملة إلى مادة للتندر والسخرية، إذ بات من الصعب على المواطن تأمين احتياجاته الأساسية حتى باستخدام أوراق نقدية من الفئات الكبرى.
ورغم النوايا الطيبة التي حملتها “ليرتنا عزنا”، فإنها لم تحدث أي أثر اقتصادي ملموس، بل عكست بوضوح مدى التدهور الذي وصلت إليه العملة الوطنية، وأظهرت في الوقت نفسه حجم الفجوة بين بعض المبادرات الرمزية والواقع المعيشي الصعب الذي يعيشه السوريون.
هل التوجه نحو أوروبا يعني تحسنًا في قيمة الليرة؟
لا يمكن النظر إلى قرار طباعة العملة السورية في أوروبا بمعزل عن السياقين السياسي والاقتصادي الأشمل. فعلى المستوى الفني، قد تسهم الاستعانة بمطابع أوروبية في تحسين جودة الأوراق النقدية وتقليل فرص التزوير، لكنها تبقى خطوة شكلية ما لم ترافقها إصلاحات أعمق، إذ لا يمكن لمكان الطباعة وحده أن يعالج التراجع الحاد في قيمة الليرة.
والقيمة الحقيقية لأي عملة تستمد من عوامل أساسية مثل حجم الإنتاج، والصادرات، والميزان التجاري، واستقرار السوق المحلية، وفي الحالة السورية، لا تزال هذه المؤشرات تعاني من اختلالات كبيرة، ما يعني أن أي تحسن محتمل في قيمة الليرة سيكون محدودًا في مداه، ومؤقتًا في أثره، ما لم يتم العمل على معالجة جذرية للاقتصاد.
وفي الوقت نفسه، تثار تساؤلات حقيقية حول كيفية تجاوز العقوبات الأوروبية المفروضة على دمشق، وهل ستمنح استثناءات رسمية تسمح بطباعة العملة في أوروبا، أم أن العملية ستدار عبر وسطاء وشركات غير مباشرة كما حدث في بعض الطلبيات السابقة عبر روسيا.
حتى الآن، لا توجد مؤشرات واضحة، لكن أي اتفاق جديد في هذا الاتجاه قد يقرأ كإشارة على تحول خفي، وإن كان محدودًا، في الموقف الأوروبي من الملف السوري.
اقرأ أيضاً: مستشار المركزي يكشف المستور ويحدّد سعر الدولار الحقيقي في سوريا!
الحل يكمن في الاقتصاد لا في الطباعة
العودة إلى طباعة العملة في أوروبا قد تفهم على أنها خطوة إيجابية من حيث تحسين جودة الأوراق النقدية ومكافحة التزوير، لكنها تظل إجراءً شكليًا لا يعالج جوهر المشكلة.
فالتحدي الحقيقي لا يتعلق بمكان الطباعة، بل بإصلاح بنية الاقتصاد، وتحقيق استقرار سياسي، واستعادة ثقة المواطنين والمستثمرين بالنظام المالي.
ودون هذه التحولات الأساسية، ستبقى الليرة عرضة لمزيد من التراجع، لأن القيمة الحقيقية لأي عملة لا تبنى على نوعية الورق أو جودة الطباعة، بل على صلابة الاقتصاد الذي يدعمها وقدرته على الإنتاج والنمو والاستقرار.