بعد سنوات من الحرب والدمار، شهدت سوريا تحولاً سياسيًا مفصليًا مع سقوط نظام بشار الأسد، وتولي الرئيس أحمد الشرع منصب الرئاسة وتشكيل حكومة جديدة ترفع شعارات “الانتقال الوطني” و”العدالة الاجتماعية”.
وأعاد هذا التغيير الكبير طرح ملف اللاجئين والنازحين السوريين على الطاولة، وفتح باب الأسئلة مجددًا حول مدى إمكانية العودة الآمنة والحياة المستقرة في البلاد.
لكن رغم الأمل الذي بعثه هذا التغيير، لا تزال عودة السوريين محفوفة بعقبات معقدة، تبدأ من تفاصيل السكن وتنتهي بحالة من اللايقين الوجودي.
سكن مكلف وبيوت مفقودة: أزمة الإيجارات ترهق العائدين
من أوائل التحديات التي تواجه العائدين هو العثور على سكن مناسب، فالكثير من البيوت قد دمر خلال سنوات الحرب، أو أصبحت بيد سماسرة يتحكمون بالأسعار.
وفي مناطق مثل دمشق، حلب، وطرطوس، وصلت الإيجارات إلى مستويات غير مسبوقة، حتى في الأحياء الشعبية.
وقد كتب أحد العائدين على فيسبوك: “نحن لا نطلب شيئاً أكثر من غرفة وسقف، لكنهم يطلبون أجار مليون ليرة، من وين بدنا نجيبهم؟”.
كما علق لاجئ سوري على منشور في إحدى المجموعات على فيسبوك، قائلاً: “حتى لو عدنا، أين سنعيش؟ بيتنا في حلب أصبح ركامًا، والحكومة المؤقتة لا تملك مالاً لبناء عشوائيات، فكيف بمدن كاملة؟”.
ورغم إعلان الحكومة الجديدة نيتها إطلاق برامج إسكان ميسرة، فإن هذه المشاريع لا تزال في مراحلها النظرية، وتواجه عوائق في التمويل والتنفيذ.
وحتى تتبلور حلول فعلية، يبقى حلم الاستقرار مرتبطًا بقدرة الناس على تحمل تكاليف المعيشة، أو انتظار دعم خارجي لإنعاش قطاع الإسكان.
بيئة أمنية ضبابية: بين الحياد الرسمي ومخاوف الناس
على الصعيد الأمني، تحاول الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع تقديم صورة أكثر توازناً وحيادية، فقد تم دمج عدد من الأجهزة الأمنية، وتأكيد التزام الدولة الجديدة بحماية الحقوق وعدم العودة إلى أساليب القمع السابقة، لكن رغم هذه الخطوات، لا تزال هناك مخاوف عميقة في الشارع.
والعائدون يتساءلون عمّا إذا كانت هذه التطمينات كافية فعلاً، في ظل وجود قوى مسلحة غير منضبطة في بعض المناطق، أو حالة من “العدالة المؤجلة” حيث لا تزال ملفات الاعتقال والإخفاء القسري من الماضي مفتوحة.
وبعض العائدين تحدثوا عن “معاملة محترمة في المطار”، بينما اشتكى آخرون من “استجوابات طويلة وقلق دائم”.
وبالرغم من أن البيئة الأمنية اليوم تبدو أكثر هدوءًا من السابق، لكنها بحاجة إلى وقت طويل حتى تزرع الثقة من جديد.
اقرأ أيضاً: تحديات اقتصادية بالجملة.. الفقر في سوريا يصل لمستويات قياسية!
اقتصاد هش وتضخم متسارع: المعيشة أصبحت عبئاً يومياً
الوضع الاقتصادي يعد من أبرز الحواجز التي تقف في وجه العودة، فالتضخم بلغ مستويات غير مسبوقة، وأسعار المواد الأساسية تضاعفت أكثر من مرة خلال العام الماضي، والليرة السورية لا تزال تحت ضغط كبير، ومع غياب مصادر دخل ثابتة، يجد العائدون أنفسهم وسط معركة يومية لتأمين الحاجات الأساسية.
الحكومة الجديدة وضعت خطة إنعاش اقتصادي مبدئية، لكنها لا تزال تصطدم بواقع العقوبات الدولية وصعوبة الحصول على الدعم الخارجي، كما أن الحلول طويلة الأمد تتطلب إصلاحات جذرية في بنية الاقتصاد، وشفافية في الإدارة، وثقة دولية بإمكانية الاستقرار.
وحتى ذلك الحين، سيبقى الاقتصاد أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع بالكثيرين للتردد في اتخاذ قرار العودة.
النسيج الاجتماعي الممزق: مصالحة أم انتقام؟
التحدي المجتمعي ليس أقل أهمية، فخلال سنوات الحرب، تشكلت انقسامات عميقة بين السوريين على أسس طائفية وسياسية، وربّما الأهم طبقية.
بعض العائدين يواجهون تهميشاً أو رفضاً من مجتمعاتهم الأصلية، أو يجدون أنفسهم غرباء في مناطق تغيّرت هويتها كلياً، كما أن تجاوز هذا الانقسام يتطلب وقتاً طويلاً، وعملية مصالحة حقيقية لا تقوم على “النسيان” بل على الاعتراف والتفاهم وإعادة صياغة الهوية الوطنية بشكل يضمن التعددية والاحترام المتبادل.
وعلى الجانب الشخصي، يعاني كثير من العائدين من فقدان الوثائق الرسمية أو صعوبة استعادتها، وهو ما يعيق حصولهم على الحقوق الأساسية كالتعليم، والرعاية الصحية، وحتى تسجيل الأطفال.
وعلى الرغم من بعض المبادرات التي انطلقت في الخارج أو عبر منظمات إنسانية لتسهيل توثيق الأحوال المدنية، فإن حل المشكلة يتطلب من الجهات السورية الجديدة أو الانتقالية، اعتماد نظام إداري مرن، يعترف به دولياً، ويمنح الثقة للمواطنين بإمكانية استعادة وجودهم القانوني، وهو ما تعلن السلطات مراراً بأنّها بدأت به، ولهذا يبدو أن علينا الانتظار لحصد النتائج.
اقرأ أيضاً: انخفاض التضخم في سوريا.. بين المؤشرات الإيجابية والتحديات المستمرة
أزمة ثقة وهوية: اللايقين يعلق القرار
وسط كل هذه الظروف، يبقى العامل النفسي والمعنوي الأكثر تعقيداً، فكثير من السوريين، سواء في الداخل أو الخارج، يعيشون حالة من اللايقين حيال المستقبل.
وحتى مع التغيير السياسي، فإن غياب توافق دولي، واستمرار العقوبات، وتصريحات مبعوث الأمم المتحدة غير بيدرسن Geir Pedersen حول “فقدان الأمل”، كلها تعكس الشعور بأن الوطن لا يزال في منطقة رمادية.
العودة إلى سوريا لم تعد مرتبطة فقط بالبيت أو الأمان، بل بالثقة بأن ما جرى ليس مجرد تغيير في الأشخاص، بل في السياسات والبنية، وبأن المستقبل سيكون مختلفاً عن الماضي.
وحالة الشك هذه تنعكس في كل التفاصيل: من الأب الذي يتردد في تسجيل أطفاله في المدارس الجديدة، إلى الشابة التي تخشى أن يكون الحجاب أو عدمه سبباً في مضايقتها، إلى الموظف السابق الذي لا يعرف إن كان سيعاد توظيفه أم لا.
في الختام، كل ما سبق لا يعني أن العودة مستحيلة، بل إنها أصبحت، لأول مرة منذ سنوات، خياراً مطروحاً على الطاولة.
لكنها خيار مشروط، يتطلب الكثير من الضمانات، والإصلاحات، والأهم من ذلك، بناء الثقة من جديد بين الدولة والمواطن.
وبينما تستمر الحكومة الجديدة في رسم ملامح مرحلة ما بعد الأسد، يبقى قرار العودة معلقًا بين ما هو ممكن، وما هو مأمول، وبين الرغبة بالوطن، والخوف من ألا يكون الوطن قد تغير بما يكفي.