يمرّ القطن في سوريا اليوم بصعوبات هائلة، بعدما كان أحد أهم المحاصيل الزراعية لعقود خلَت، حتى جاءت سنوات الحرب الحالكة وقلبت المعادلة، وفي هذا التقرير، سنغوص في الأسباب التي دفعت “الذهب الأبيض” إلى حافة الانهيار، والتحديات التي يواجهها المزارعون اليوم، وسط آمال خجولة بعودة هذا المحصول إلى سابق عهده.
القطن السوري قبل الحرب
يُزرع القطن بشكل رئيسي في شمال وشمال شرق البلاد، وخاصة في محافظات الحسكة، حلب، الرقة، دير الزور وحماة، وكانت المساحات المزروعة تصل قبل عام 2011 إلى نحو 250 ألف هكتار، منها ما يقارب 200 ألف طن من الإنتاج في محافظة الحسكة وحدها.
ويمتاز القطن السوري بجودته العالية، وتقوم سوريا بتصدير جزء من إنتاجها كقطن “محلوج”، أي منزوع البذور، إلى عدد من الدول الأوروبية، ليتم استخدامه في إنتاج المنسوجات الفاخرة، أما الجزء الآخر فيخصص لصناعة الخيط العضوي المستخدم في إنتاج الملابس القطنية العضوية التي تُصدَّر إلى 18 دولة، أبرزها دول أوروبا و الصين والمكسيك.
وقبل عام 2011، حظي القطن برعاية خاصة من وزارة الزراعة، التي كانت تُلزم المحافظات بتنفيذ خطة زراعية دقيقة، وكان يقام له مهرجان سنوي في مدينة حلب منذ خمسينيات القرن الماضي، في شهر سبتمبر من كل عام احتفاءً بهذا المحصول المهم، كما كانت المحافظة تستضيف مؤتمراً علمياً متخصصاً بزراعة القطن منذ أكثر من 40 عاماً، يناقش خلاله الباحثون آخر التطورات ويعتمدون أصنافاً جديدة.
اقرأ أيضاً: القمح السوري: مواصفات عالمية تحجبها التحديات!
بداية التراجع
ظلّ القطن حتى عام 2011، أحد الأعمدة الأساسية في الاقتصاد الزراعي السوري، إذ كان يشكّل نحو 30% من مجمل الصادرات الزراعية، وقد كانت البلاد تنتج أكثر من مليون طن سنوياً، وتحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد الهند.
وفي عام 2007، حققت سوريا قفزة نوعية في إنتاج القطن، واحتلت المرتبة الثانية عالمياً بعد أستراليا من حيث في إنتاجية الهكتار بنسبة بلغت 8.3% من الإنتاج العالمي.
وتوّج هذا التقدم في عام 2011، عندما تجاوز الإنتاج حاجز المليون طن، قبل أن ينقلب المشهد بفعل الحرب التي ضربت مناطق زراعة القطن، وترافقت مع تراجع منسوب نهر الفرات وتفاقم أزمة الكهرباء وشحّ المحروقات، ما أدى إلى تدهور الإنتاج بشكل كبير.
وفي عام 2015، هبط الإنتاج إلى 100 ألف طن، ثم تراجع مرة أخرى إلى أقل من 20 ألف طن بحلول 2021، بانخفاض تجاوز 90%، كما تراجعت المساحات المزروعة من 250 ألف هكتار إلى نحو 35 ألف هكتار فقط، ما يدل على الانحدار الحاد الذي أصاب هذه الزراعة.
اقرأ أيضاً: مزارعو الحسكة بين أرض عطشى وأمل مفقود!
القطن في ذاكرة الحسكة
وتعدّ محافظة الحسكة من أهم مناطق زراعة القطن في سوريا، فقد كانت تنتج نحو 40% من الإنتاج الوطني، وبلغ إنتاجها في موسم 2005 حوالي 378,330 طناً، وفي عام 2010، زُرع نحو 45,843 هكتار من أصل خطة تستهدف 55,000 هكتار، بإنتاج وسطي يقارب 250,000 طن.
ولكن الإنتاج السخي لم يستمر، ففي 2014، تراجعت المساحات المزروعة إلى 20 ألف هكتار بإنتاج تجاوز 60 ألف طن، واستمر التراجع إلى أن وصلت المساحات المزروعة عام 2019 إلى 3,800 هكتار فقط، دون بيانات دقيقة للإنتاج.
وفي العام الماضي، ظهرت مؤشرات تعافٍ محدود في الحسكة مع زراعة 4,775 هكتار، رغم استمرار صعوبات التسويق وغياب مراكز الاستلام.
زراعة القطن على حافة الهاوية
ومع ارتفاع تكاليف إنتاج القطن التي تشمل البذار، الأسمدة، الأيدي العاملة والمحروقات، إلى جانب حاجته الكبيرة للمياه وطول دورته الزراعية، مقابل تدنّي سعر شرائه من قبل الدولة، فضّل مزارعون كثر التوجه إلى محاصيل أخرى أسرع إنتاجاً وأكثر ربحاً مثل الذرة الصفراء والسمسم والجبس البذري، ما زاد من تراجع زراعة القطن في مختلف المحافظات.
إلى جانب ذلك، لعبت السياسات الحكومية التي اتبعها النظام السابق دوراً كبيراً في هذا التراجع، إذ أدت قرارات التأميم التي طالت معامل النسيج إلى هجرة عدد من الصناعيين، وخاصة نحو مدينة مانشستر البريطانية، حيث أسسوا مصانع جديدة اعتمدت على الخبرة السورية في صناعة النسيج، وقد ساهم هذا الأمر في ازدهار هذه الصناعة خارج البلاد، مع تراجعها في الداخل.
ورغم هذه التحديات، سُجّل خلال العام الماضي تحسّن طفيف في زراعة القطن في جميع المناطق التي تزرع القطن، مع زيادة المساحات المزروعة بنحو 1500 هكتار عن العام السابق، لتصل إلى 8722 هكتاراً في المناطق التي كانت تُصنَّف “آمنة”.
اقرأ أيضاً: الأمن الغذائي في سوريا.. هل الزراعة في مهب الريح؟!
مزارعو دير الزور في مأزق!
حالياً، يواجه مزارعو القطن في محافظة دير الزور أزمة كبيرة بسبب تأخر حكومة النظام السابق في تسديد مستحقاتهم المالية، بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على تسليمهم محاصيلهم.
ويترقب الفلاحون بفارغ الصبر الحصول على أثمان محاصيلهم، التي باتت مجهولة المصير، وسط تصاعد الأعباء المعيشية والاقتصادية.
فقد تسبب التأخير في تسلّم فواتير القطن في تعطيل أعمال المزارعين، وأدى إلى تراكم الديون عليهم، إذ يعتمد معظمهم على هذه العائدات في تسديد التزاماتهم المالية تجاه الموردين، وشراء مستلزمات الموسم الزراعي المقبل من بذار وأسمدة، وقد طالب المزارعون اتحاد الفلاحين بالتدخل العاجل لمعالجة الأزمة.
ورداً على مطالبهم، أوضح رئيس اتحاد الفلاحين في دير الزور، حمد الخضر، أن قيمة مستحقات القطن كبيرة، وأن نقص السيولة المالية يعوق تسديدها حتى الآن، مؤكداً أن هذا التأخير ألحق ضرراً بالغاً بالمزارعين الذين يعتمدون على بيع محاصيلهم الموسمية، خاصة القطن والقمح، لتأمين مستلزماتهم الزراعية والمعيشية.
ولفت الخضر إلى وجود تنسيق بين اتحاد الفلاحين في المحافظة والاتحاد العام في دمشق، بالتعاون مع وزارات الزراعة والمالية والاقتصاد، بهدف تذليل العقبات وتوفير الدعم المطلوب، خاصة فيما يخص تأمين ثمن الأقطان، وتوفير البذار والأسمدة، وتحسين خدمات الري، بحسب “عنب بلدي”.
وعموماً، يشهد القطاع الزراعي في دير الزور تراجعاً ملحوظاً في المساحات المزروعة، نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات وشحّ الدعم الحكومي وغلاء مستلزمات الإنتاج، وكون الزراعة المهنة الأساسية لسكان ريف دير الزور، ومصدر دخلهم الأول، يأمل الفلاحون بإطلاق خطط دعم حقيقية لاستصلاح الأراضي المتضررة، خاصة تلك التي باتت غير صالحة للزراعة بسبب تسرب المياه وظهور برك مائية تعرف بـ”الطعن”.
ختاماً، تتطلب عملية إنقاذ القطن، والذي كان يوماً ما أحد أهم الركائز الاقتصادية في سوريا، خطوات جادّة مثل توفير الدعم الحقيقي للمزارعين، وتحسين البنية التحتية، وضمان تسويق عادل للمحصول، ومناخ سياسي واقتصادي مستقر يعيد الثقة للمنتجين والصناعيين في قطّاع أثقلته الحرب والضغوط الاقتصادية.
اقرأ أيضاً: انهيار زراعة الحمضيات في سوريا.. من يعالج مشاكل المزارعين؟