يوم أمس الأربعاء، طرحت المؤسسة العامة السورية للحبوب مناقصة دولية جديدة لشراء نحو 100 ألف طن من القمح اللين، حسب ما أفاد به متعاملون أوروبيون، وسيكون يوم العاشر من آذار هو الموعد النهائي لتقديم عروض الأسعار، مع توقعات بأن تتخذ المؤسسة قرارها بشأن العروض المقدمة خلال 15 يوماً من إغلاق المناقصة.
وتفصيلاً، طلبت المناقصة شحن الكميات المشتراة في غضون 30 يوماً من تاريخ التعاقد، مع نظام دفع مقسم إلى 80% عند التسليم و20% بعد 15 يوماً، وتمثل هذه المناقصة أول عملية شراء كبيرة منذ سقوط النظام أواخر العام الماضي.
وحسب شروط المناقصة فإن قيمة الشحنات ستدفع بالدولار، متبعةً بذلك ما هو متعارف عليه في سوق الحبوب العالمية، بعد أن كانت حكومة النظام السابق تدفع باليورو.
وأشار متعامل أوروبي أن هذه المناقصة قد تكون مؤشراً على قدرة الحكومة السورية الجديدة على بناء الثقة في سوق الحبوب العالمية، وهو أمر ضروري لإتمام عمليات الشراء الكبيرة، وقال: “ستكون هناك حاجة إلى الثقة في إتمام المدفوعات وفي أن تكون الموانئ آمنة”.
وأضاف أن هناك استفسارات من شركات سورية خاصة حول شراء كميات صغيرة من القمح، إلا أن إمكانيات الدفع لا تزال غير واضحة.
اقرأ أيضاً: تعميم: منع تجوال الدراجات النارية غير المرخصة داخل دمشق
القمح السوري من الاكتفاء الذاتي إلى التحديات
على مدى عقدين من الزمن، كانت سوريا تعدّ الدولة العربية الوحيدة المكتفية ذاتياً من القمح، حيث كانت تمتلك فائضاً يُصدّر إلى الخارج، كما عُرفت بامتلاكها لأفضل أنواع البذور على مستوى العالم.
فمنذ عام 1990 وحتى عام 2008، استمرت سوريا بالاكتفاء الذاتي وتصدير القمح، وخلال التسعينيات كان الإنتاج يقرب من 5 ملايين طن، قبل أن يستقر حول 4 ملايين طن حتى اندلاع الثورة، مع تسجيل أعلى إنتاج في عام 2006، حيث وصل إلى 4.9 ملايين طن، وقد بلغت الأراضي المزروعة بالقمح عام 2007 نحو 1.7 مليون هكتار.
في عام 2008، واجهت سوريا أزمة كبيرة في إنتاج القمح، ما اضطرها للاستيراد لأول مرة، إذ تسببت ظروف الطقس السيئة في تدهور الاكتفاء الذاتي، شهدت البلاد 55 يوماً من الصقيع في بداية العام، تأخر بسببها زراعة القمح والشعير، تلا ذلك طقس حار غير موسمي في شهر أبريل، قضى على فرص الحصاد في المناطق التي تعتمد على مياه الأمطار.
وكانت المناطق المروية بمياه الأمطار تساهم بنحو ثلث إنتاج الحبوب في سوريا، لكن الأمطار في ذلك العام جاءت دون المعدل الطبيعي بنسبة 40%، ما أدى إلى انخفاض إنتاجية المناطق المروية بنسبة 20% أيضاً، وحتى الآبار الجوفية التي تم حفرها لم تعد كافية لتلبية احتياجات هذه الأراضي.
وبسبب ذلك هاجر آلاف الفلاحين من بعض المناطق التي كانت تشكّل أراضٍ لزراعة القمح في منطقة الجزيرة السورية، ولم يكن الجفاف والطقس هو السبب الوحيد لهذا التراجع، فقد رفعت الحكومة أسعار الوقود والأسمدة وأصبحت كلفة الإنتاج لا تتناسب مع سعر السوق.
وكانت الحكومة السورية تتبع سياسة شراء كافة محاصيل القمح من المزارعين، إذ كانت تستحوذ على نحو 2.5 مليون طن لتلبية احتياجات الأفران وتعزيز الاحتياطات، وكانت تصدر نحو 1.5 مليون طن إلى دول مثل مصر واليمن والأردن.
وفي عام 2010، انخفض متوسط الإنتاج بشكل ملحوظ، إذ استلمت الحكومة من الفلاحين حوالي 2.4 مليون طن من القمح، مقارنة بـ 2.8 مليون طن في عام 2009، الذي شهد أيضاً دخول 1.2 مليون طن من القمح إلى موانئ البلاد.
اقرأ أيضاً: الثروة السمكية في سوريا: يمكن الرهان على السمك في الماء!
القمح بعد الحرب
مع انطلاقة الثورة السورية، شهد إنتاج القمح في البلاد تدهوراً ملحوظاً، وفي عام 2012، اضطرت سوريا إلى استيراد الطحين لأول مرة، إذ خرجت أكثر من نصف المناطق المنتجة للقمح في شمال وجنوب البلاد من دائرة الإنتاج، وكانت المساحة المزروعة بالقمح في تلك الفترة هي الأدنى منذ الستينيات.
ورغم الظروف القاسية، أنتجت سوريا في عام 2012 حوالي مليوني طن من القمح، لكن ذلك لم يكن كافياً لتلبية الاحتياجات، إذ تأثرت مناطق الإنتاج الرئيسية، خاصة في محافظتي حلب والحسكة، بالحرب والأحوال الجوية السيئة، ما أدى إلى تراجع الإنتاج بنسبة تراوحت بين 30% و40%.
وموسم عام 2013 كان سيئاً أيضاً، إذ سجل أسوأ أداء للقمح في ثلاثة عقود، وزادت كمية القمح المستورد لتصل إلى 2.4 مليون طن، وفي عام 2014، تفاقمت المأساة، حيث انخفض المحصول لأقل من مليون طن بسبب الجفاف الشديد وظروف الحرب.
وفي عام 2015، أفادت مصادر النظام السابق، بأنّ مشتريات الدولة من المزارعين بلغت 454 ألف طن، مقارنة بـ523 ألف طن في 2014، ويعود تراجع الأرقام إلى تشتت قوى السيطرة في سوريا، وقيام العديد من الفلاحين ببيع محاصيلهم بأسعار منخفضة لوسطاء يصدرونها إلى العراق وتركيا.
اقرأ أيضاً: 960منشأة تعمل بالشيخ نجار الصناعية و100قيد التجهيز
وبلغ إنتاج سوريا من القمح 1.7 مليون طن في عام 2016، تم تسويق 425 ألف طن منها للمؤسسة العامة للحبوب، حيث كانت الكميات الأكبر تأتي من الحسكة، بينما عانت باقي المحافظات من تأثير الجفاف، واحتفظ بعض الفلاحين بإنتاجهم، بينما باع آخرون حصادهم للتجار في مناطق سيطرة مختلفة.
وبحلول عام 2017، ارتفع إنتاج القمح إلى 1.85 مليون طن، وفي عام 2018، لم يتجاوز إنتاج القمح 1.2 مليون طن، وفقاً لمنظمة “الفاو” للأغذية.
وكانت توقعات النظام السوري السابق بأن يتجاوز موسم القمح لعام 2019 حدود 2.5 مليون طن، خاصة بعد استعادة سيطرته على العديد من مناطق إنتاج القمح، لكن التوقعات لم تفلح، لأن الحرائق التي طالت 10% من المحاصيل دمرت أكثر من 80 ألف دونم.
وقد تبادل الأطراف الاتهامات بشأن مسؤولية الحرائق، حيث حمّل الكثيرون قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المسؤولية، في حين أكدت “الإدارة الذاتية” أن الحرائق مفتعلة من قبل جهات تخريبية، كما تبنى تنظيم “داعش” بعض الحرائق.
وفي مناطق المعارضة، اتهم البعض النظام بارتكاب هذه الحرائق عبر غارات جوية أو قذائف مدفعية. ومع تراجع المساحات الصالحة لزراعة القمح بعد سيطرة النظام على أراضٍ جديدة، تفاقمت أزمة المحصول.
وسجلت سوريا في عام 2021 أدنى نسبة لإنتاج القمح منذ 50 عاماً، بسبب القحط وارتفاع الأسعار والظروف الاقتصادية السيئة.
اقرأ أيضاً: تركيب نظامي إرسال واستقبال جديدين لاسلكيين بمطار دمشق الدولي
في العام الماضي، بلغ إنتاج سوريا من القمح مليوني طن بانخفاض 47% عن مستويات ما قبل الأزمة و16% عنه في 2023، بحسب تقديرات نشرتها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة في تشرين الثاني 2024.
وأفاد تقرير بأن 58% من مزارعي القمح في شمال غربي سوريا، خصوصاً في إدلب وحماة، شهدوا تراجعاً في إنتاجهم خلال موسم 2023-2024، ما يزيد من مخاطر نقص الخبز في عام 2025، وقد يدفع هذا الوضع بعض المزارعين لتقليص زراعة القمح أو التوقف عنها.
وفي هذا السياق، حذرت الأمم المتحدة في تقرير شهر شباط الماضي من التهديدات الجسيمة للأمن الغذائي في سوريا نتيجة تداعيات الحرب على إنتاج القمح وتوريده، وأكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن الأزمة المستمرة تؤثر على توفر الخبز، حيث تضررت البنية التحتية الحيوية مثل المخابز والمطاحن بشدة، ما أدى إلى انقطاع سلسلة التوريد وارتفاع تكاليف الإنتاج، كما أشار التقرير إلى ضرورة تحسين الكفاءة في المخابز والصوامع لمواجهة التحديات التشغيلية.
اقرأ أيضاً: الاتحاد الأوروبي يرفع العقوبات على عدد من القطاعات، ما هي؟
أزمة القمح في الرقة اليوم
وفي ظل التحديات الاقتصادية في شمال شرق سوريا، يواجه مزارعو ريف الرقة أزمة جديدة تتمثل في انخفاض أسعار القمح، ما يثير مخاوفهم بشأن استمرارية الزراعة، فقد بدأ المزارعون برش حقولهم بالمبيدات وتجهيز أراضيهم للري، ومع ذلك يشعرون بقلق متزايد من عدم تحسن الأسعار التي تكبدتهم خسائر كبيرة في الموسم الماضي.
فالإدارة الذاتية كانت قد خفضت سعر شراء القمح الموسم السابق إلى 30 سنتاً للكيلوغرام، بعد أن كان 40 سنتاً في العام الذي يسبقه، ما زاد من الأعباء المالية على المزارعين، الذين لم تعد عائداتهم تغطي تكاليف الإنتاج العالية، ونتيجة لذلك، تقلصت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح بشكل ملحوظ هذا العام، حيث أعاد المزارعون النظر في استمراريتهم في زراعة هذه المادة الأساسية.
اقرأ أيضاً: إطلاق خدمة شحن مباشرة تربط مينائي جدة واللاذقية
الحكومة الحالية تحذّر من كارثة وشيكة
وفي بداية العام الحالي، أفاد وزير التجارة السوري ماهر خليل الحسن، إن دمشق تواجه صعوبة في إبرام صفقات لاستيراد الوقود والقمح والبضائع الأساسية الأخرى بسبب العقوبات الأميركية الصارمة، على الرغم من رغبة بعض الدول، بما في ذلك دول الخليج، في تلبية احتياجات سوريا.
وأضاف الحسن، خلال مقابلة مع رويترز، أن الحكومة تمكنت من جمع ما يكفي من القمح والوقود لبضعة أشهر، وحذّر من “كارثة” وشيكة إذا لم يتم تجميد العقوبات أو رفعها قريباً.
من جانبه، أوضح وزير الزراعة محمد طه الأحمد أن الحكومة السورية تعوّل على القمح المنتج في المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” لتلبية احتياجات البلاد قبل اللجوء إلى الاستيراد، وأكد أن “أبواب التعاون مع قسد مفتوحة” لتسويق القمح المزروع من قبل المزارعين تحت حكمها.
وأفاد الأحمد بأن الوزارة تستهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية، مع التركيز على زيادة إنتاج المحاصيل ذات القيمة مثل القطن.
وفي سياق تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، قال الأحمد إن سوريا بحاجة إلى 3 ملايين طن سنوياً، مؤكداً أن تحقيق هذا الهدف ممكن خلال عام واحد بشرط عودة المناطق الشرقية (دير الزور والرقة) من سيطرة “قسد”.
ختاماً، في ظلّ هذه الظروف الاقتصادية الكارثية التي تمرّ بها سوريا، يعيش أكثر من ربع السوريين في فقر مدقع، نتيجة لأكثر من عقد من النزاع الذي دمّر البلاد، فقد أدت الأزمات الاقتصادية المتلاحقة إلى حرمان الملايين من تأمين احتياجاتهم الأساسية، وزاد الزلزال في عام 2023 الأعباء عليهم، هذا الواقع المرير يسلط الضوء على الحاجة الملحّة للتوصل إلى حل دولي من أجل تقديم الدعم والمساعدة لإعادة بناء حياة السوريين وتأمين حقوق الحياة لهم.
اقرأ أيضاً: مزارعو طرطوس في دوامة الأزمات: بين ارتفاع الأسعار والطقس القاسي