في بلدٍ تعيش عملته الوطنية أسوأ أيامها، وتضيق فيه السيولة حتى على أنفاس المواطنين، يصبح التفكير خارج الصندوق ليس مجرد خيار، بل ضرورة وجودية. وبين الطوابير المصرفية الطويلة، والأبواب الموصدة أمام السحب والإيداع، تبرز «الليرة الرقمية السورية» كمفتاح محتمل لباب اقتصادي مغلق، ومحاولة جادة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جسد الاقتصاد السوري المنهك.
لطالما ارتبط مفهوم العملات الرقمية في ذهن الكثيرين بالمستقبل، لكنه في الحالة السورية بات يمثل حلاً آنياً أكثر من كونه طموحاً بعيد المنال. يؤكد الخبير الاقتصادي د. حيان البرازي أن إطلاق «الليرة الرقمية السورية» وتطبيق «محفظتي السورية» لم يعد ترفاً تقنياً، بل ضرورة استراتيجية لإنقاذ الاقتصاد ومحاربة الفساد، وضمان وصول الدعم إلى مستحقيه بطريقة شفافة وآمنة على حدّ قوله.
الفكرة الجوهرية تتمحور حول محفظة رقمية شخصية، يستخدمها المواطنون في تعاملاتهم اليومية: من استلام الرواتب، إلى دفع الفواتير، وحتى شراء المواد التموينية. ويتم ذلك من خلال تطبيق رقمي مرتبط بالرقم الوطني والهاتف المحمول، يتيح لكل مستخدم التحكم الكامل بمحفظته الإلكترونية، مع مستويات عالية من الأمان والتشفير.
فوائد تتجاوز التقنية.. إلى العمق الاقتصادي
وفق البرازي، فإن أبرز ما تقدّمه الليرة الرقمية هو حلّ أزمة السيولة التي تخنق الاقتصاد السوري حالياً. فبدلاً من طباعة كميات هائلة من العملة الورقية وما يرافقها من كلفة وتضخم، يمكن تحويل التعاملات إلى الشكل الرقمي، ما يوفر السيولة ويعيد الحياة لدورة المال.
إضافة إلى ذلك، فإن تتبع المعاملات رقمياً عبر منصات مركزية أو عبر تكنولوجيا «بلوكشين» يعزز من الشفافية ويقلص فرص الفساد، ويجعل من الصعب التلاعب بالأموال أو التحايل في الدعم والإنفاق الحكومي.
دعم مباشر بلا وسطاء
ويرى الدكتور حيان أن من أعظم مزايا الليرة الرقمية هو قدرتها على إيصال الدعم الحكومي مباشرةً للمواطنين دون أي وسيط. سواء كان هذا الدعم مالياً، أو تموينياً، أو متعلقاً بالمحروقات، فإن المحفظة الرقمية تضمن عدالة التوزيع، وسرعة التنفيذ، وتقليل فرص التسريب أو التلاعب وفق الخبير الاقتصادي.
كما أن اعتماد نظام رقمي حديث في التحويلات المالية، يسهم في تخفيض تكاليف التحويلات الداخلية والخارجية، خاصة من المغتربين السوريين الذين يجدون صعوبة وغلاءً في إرسال الأموال لذويهم عبر الأنظمة التقليدية.
الاقتصاد الرقمي: فرصة لا تهدر
يرى البعض أن العملة الرقمية تفتح الباب واسعاً أمام شركات التكنولوجيا المالية (FinTech)، وتدفع الشباب نحو الابتكار والعمل عن بعد. كما تسهم في خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز ثقافة الشمول المالي التي لا تزال غائبة عن شريحة كبيرة من المواطنين.
بالتالي، في حال تم ربط الليرة الرقمية بسلة عملات مستقرة أو أصول حقيقية مثل الذهب أو النفط، فإنها تُصبح أداة فعالة لحماية مدخرات المواطنين من التآكل، خصوصاً في ظل الانهيار المتواصل في قيمة الليرة الورقية.
خطوات واقعية نحو التطبيق
يرى د. البرازي أن أول خطوة نحو تنفيذ هذه الفكرة تبدأ من قرار رسمي من مصرف سوريا المركزي بإصدار الليرة الرقمية تحت اسم «SYP-D»، على أن تكون خاضعة لرقابة الدولة ومتصلة بمنصة حكومية رسمية.
وينبغي أن يتم إطلاق تجريبي محدود لتطبيق «محفظتي السورية» على شريحة معينة كالموظفين أو المتقاعدين، أو في محافظة واحدة، لقياس مدى الفاعلية قبل التعميم.
ويمكن أن تشمل الاستخدامات اليومية لهذه المحفظة: الشراء من المتاجر، دفع الفواتير، استلام الدعم، تحويل الأموال، وتسجيل المعاملات بدقة. كما سيكون هناك نظام تشفير متقدم وإمكانية تجميد المحفظة في حال الضرورة، مع سجل معاملات مفصّل لكل مستخدم لضمان الشفافية.
اقرأ أيضاً: عيد الفطر 2025 في سوريا: الجمل بليرة وما في ليرة
مشكلة السيولة.. إلى متى؟
ويزداد الحديث مؤخراً عن العملية الرقمية بالتوازي مع مشكلة السيولة التي تعاني منها البلاد، وفي تعليقه على الأمر، شدد أستاذ الاقتصاد في جامعة حلب، د. حسن الحزوري، على أن نقص السيولة النقدية هو أحد أكبر التحديات الراهنة، حيث يعرقل النشاط الاقتصادي ويُضعف ثقة المواطنين بالمصارف، خاصة في ظل القيود المفروضة على السحب والتعاملات البنكية.
ويرى أن سياسة حبس السيولة دفعت الكثيرين إلى عزوف شبه تام عن التعامل المصرفي، ما زاد من الركود الاقتصادي ورفع معدلات البطالة، وأضعف فرص التحول إلى اقتصاد رقمي حديث.
ويُحذّر الحزوري من أن استمرار هذه السياسات المالية القديمة سيفتح الباب لمزيد من الفساد والعمولات المرتفعة، ما يضعف فرص الإصلاح حسب تعبيره.
فرصة لمستقبل رقمي!
ختاماً، وبغض النظر عن إمكانيات تطبيق فكرة «الليرة الرقمية السورية» من عدمها، فإنها قد تكون طوق نجاة لاقتصاد يترنح، ولمواطن أثقلته الطوابير والبطالة وفقدان الثقة. لكن النجاح لا يكمن فقط في الإطلاق، بل في الشفافية، الرقابة، وحسن التنفيذ. فالوقت قد حان لتجربة جديدة تفتح الباب لمستقبل رقمي أكثر عدلاً وكفاءة.