لم تكن سوريا، التي خرجت قبل أشهر من عباءة نظامٍ أحكم قبضته على مفاصل الاقتصاد عقوداً، لتتخيل أن عملتها المتهالكة ستحلّق فجأةً من قاعِ الـ 30 ألف ليرة للدولار إلى ما دون العشرة آلاف، في تحولٍ يختلط فيه الأمل بالريبة، هذا التحول المفاجئ، الذي تزامن مع مرحلة انتقالية معقدة، يطرح أسئلة مصيرية: هل هو انتعاش حقيقي ينهي عقداً من الانهيار، أم مجرد فقاعة ستضاف إلى سجلّ الأزمات؟
سعر الصرف: مرآة الاقتصاد المتكسرة
لا يُختزل سعر الصرف في رقمٍ يُذاع في النشرات، بل هو نبض الاقتصاد الذي يعكس ثقة الأسواق أو ينذر بانهيارها، فارتفاع قيمة العملة المحلية أمام الدولار مؤشر على تدفق الاستثمارات وازدهار الإنتاج، في حين أن انهيارها يكشف عن اقتصادٍ منهكٍ يتخبط في مستنقع التضخم.
وفي سوريا، تحول هذا الرقم إلى سجل يومي لمعاناة إنسانية واقتصادية، حيث فقدت الليرة السورية قيمتها كعملة قابلة للتبادل، لتصبح مجرد ورقة ملونة تتقاذفها أسواق المضاربات، بينما تحول التضخم إلى وحشٍ يلتهم المدخرات خلال عقدٍ من السياسات النقدية العشوائية
اقرأ أيضاً: مشروع لإعادة هيكلة القطاع المصرفي السوري بشراكة أوروبية
عصر الأسد: اقتصاد الظل يلتهم العملة
في السنوات الأخيرة من حكم النظام السوري المخلوع، حاولت السلطة احتواء انهيار الليرة عبر إجراءات ارتجالية، مثل ضخّ العملة المحلية في السوق دون غطاء اقتصادي حقيقي، أو فرض قيود صارمة على تداول العملات الأجنبية.
لكن هذه السياسات فاقمت الأزمة، لا سيما مع تزايد المضاربات في سوق الصرف غير الرسمية.
ففي عام 2024، شهدت الليرة السورية انهيارًا تاريخيًا، حيث تجاوز سعر الصرف 25000 ليرة للدولار، مقارنة بـ 500 ليرة قبل عام 2011.
وبدلًا من معالجة الأسباب الجذرية، مثل الفساد المالي وانهيار القطاعات الإنتاجية، لجأ النظام إلى حلول ترقيعية، مثل اعتقال الصرّافين وتشديد الرقابة، مما زاد من حالة عدم الثقة بين السوريين بالعملة المحلية.
وكانت “حرب العملة” تدار من خلف الكواليس؛ شركات صرافة وهمية ترفع سعر الدولار لتجبر المواطنين على بيع مدخراتهم الأجنبية، ثم تتدخل فجأة لخفضه عبر ضخ أموالٍ مزيفةٍ من الليرة، في لعبةٍ ماليةٍ حولت الاقتصاد السوري إلى مَيدان مقامرةٍ، دفع ثمنها الشعب السوري من دمائه ولقمة عيشه.
اقرأ أيضاً: مستشار المركزي يكشف المستور ويحدّد سعر الدولار الحقيقي في سوريا!
ما بعد السقوط: لماذا تتعثّر الليرة رغم التحسن؟
مع انهيار نظام الأسد، حاول المصرف المركزي بإدارته الجديدة إعادة رسم الخريطة النقدية عبر تثبيت سعر الصرف عند 13,200 ليرة، لكن السوق السوداء رفضت الانصياع، متذبذبةً بين 9,500 و12,500 ليرة.
هذا التباين ليس محض صدفة، بل نتاج سياسات متعمدة تسعى لتقييد السيولة المحلية وارتفاع تكلفة الحصول على العملة المحلية، مما خلق فجوةً عميقةً بين العرض والطلب.
في المقابل، ساهم تدفق الدولارات من المغتربين، وتخفيف العقوبات الدولية بشكل جزئي، في إعطاء دفعة وهمية لليرة، كمن ينعش مريضًا بحقنةٍ مسكِنةٍ تخفي الألم دون علاجٍ حقيقي.
كيف تختزل أزمات الاقتصاد في رقم؟
لن تخبرك الأرقام المجردة بالحكاية كاملةً، فتخيل تاجرًا اضطر قبل عامٍ لبيع بضاعته بمبلغ 30 ألف ليرة لشراء دولارٍ واحدٍ، ليسْتورد به سلعًا جديدة.
اليوم، وبعد انخفاض السعر إلى مستوى 10 آلاف ليرة، يبدو أن الأمور قد تحسنت، لكن هذا “التحسن” لم يولد من زيادة الإنتاج أو انفتاح الأسواق، بل عن سيولةٍ دولاريةٍ مؤقتةٍ ضخت عبر تحويلات المغتربين، واستراتيجيات مالية تقوم على حبس الليرة في البنوك، إنه انتعاش أشبه ببناء قصرٍ على رمال المضاربات، حيث يعيد اليوم كرةَ الأزمة نفسها بثوبٍ جديد.
اقرأ أيضاً: تفاصيل اتفاق الحكومة وقسد لاستئناف استجرار النفط والغاز
اتفاقية قسد: النفط السوري بين الجغرافيا السياسية والانتعاش الاقتصادي
يمثل توقيع الاتفاق مع قسد تحولًا استراتيجيًا نحو دمج المناطق الشمالية الشرقية الغنية نسبياً بالنفط (التي تُنتج نحو 100 ألف برميل يوميًا) تحت مظلة الإدارة الحكومية، بما في ذلك حقول رميلان والعمر والجفرة.
ومن شأن هذا الدمج أن يعزز إيرادات الدولة عبر ضمّ عائدات النفط التي كانت تدار سابقًا بشكلٍ منفصل من قِبل “قسد”، مما قد يسهم في تحسين احتياطيات العملة الأجنبية.
كما يتوقع أن يخفف من الضغوط على السيولة الدولارية في السوق المحلية، مع عودة تصدير النفط عبر القنوات الرسمية، مما يقلل الاعتماد على السوق الموازية.
إضافةً إلى ذلك، قد يفتح المجال أمام جذب استثمارات جديدة، لا سيما بعد الإشارات الواردة في بنود الاتفاق حول تخفيف العقوبات الغربية جزئيًا، والتي قد تعيد تنشيط القطاع الاقتصادي المتهالك.
اقرأ أيضاً: صحيفة تتحدث عن أرباح يومية هائلة للغاز في سوريا!
أحداث الساحل: العنف يعيد الليرة إلى الحضيض
قبل توقيع الاتفاق بـ48 ساعة، شهد الساحل السوري أعنف موجة قتال منذ سقوط نظام الأسد المخلوع، راح ضحيتها المئات بين مدنيين وعناصر من الأمن العام وفق توثيق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وقد انعكس هذا التصاعد الدموي على الاقتصاد عبر مسارات متشابكة منها؛ فرار جماعي للمستثمرين والمودعين من السوق المحلية خشية تفاقم الاضطرابات، مما عمق انهيار الثقة وأضعف قيمة الليرة.
وتزامن ذلك مع طفرة غير مسبوقة في الطلب على الدولار، إذ لجأ الأفراد إلى تحويل مدخراتهم إلى عملات أجنبية كملاذ آمن، ليرتفع سعر صرف الدولار من 10 آلاف ليرة إلى 13 ألفًا خلال يومين.
بينما أدى تعليق الخدمات الأساسية في المناطق المنكوبة إلى شللٍ في الحركة الاقتصادية، وزيادة حادة في نقص السيولة، كاشفًا عن هشاشة البنية المؤسسية في مواجهة الأزمات.
اقرأ أيضاً: لجنة للتحقيق في أحداث الساحل.. من هم أعضاء اللجنة وما هي صلاحياتهم؟
التفاعل المتناقض: لماذا لم تنقذ الاتفاقية الليرة؟
رغم الإيجابيات النظرية لاتفاق “قسد”، فإن التصعيد الأمني في الساحل السوري كشف عن هشاشة التحسن النقدي، نتيجة تفاعل عوامل متشابكة.
فالأزمات الأمنية تعيد إحياء ذاكرة الحرب في وعي السوريين، مما يدفعهم إلى التخلي عن الليرة لصالح العملات الصعبة كملاذٍ آمن، في ظاهرة تعكس الارتباط العضوي بين الاستقرار المالي والأمني.
كما استفادت فصائل مدعومة من الخارج من الاضطرابات لتعزيز نفوذها، مما أعاد إشعال المخاوف من عقوبات دولية محتملة قد تقوض الجهود الاقتصادية الناشئة.
إلى جانب ذلك، يتعارض توقيت الأحداث مع جدول تنفيذ الاتفاق، إذ يتطلب دمج موارد “قسد” النفطية فترة زمنية لتحقيق تأثيرٍ حقيقي، بينما أحدثت صدمة العنف في الساحل آثارًا اقتصادية فورية، كشفت عن عدم قدرة البنية المؤسسية على امتصاص الصدمات المفاجئة.
هل تعلن الليرة السورية إفلاسها الأخير؟
رغم الحذر الذي يلف التفاؤل المرافق لتقلبات الليرة اليوم، يحذر خبراء الاقتصاد من أن أي تأخير في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية سيعيد العملة إلى مواجهة التحديات المالية القاسية.
فالتحويلات الدولارية الواردة من المغتربين لا تعوّض تراجع الإنتاج المحلي المنهك، بينما لا يزال تخفيف العقوبات الدولية مرهونًا بتسوياتٍ سياسية هشة لم تنضج بعد.
كما أن استعادة الثقة الدولية بالسوق السوري ستستغرق سنواتٍ إن لم يكن هناك ضماناتٌ حقيقية، في حين تبقى مخاطر عودة التضخم كسيفٍ مُعلق فوق الاقتصاد مع أي اضطراباتٍ جديدة قد تُعيد إشعال الأزمات.
اقرأ أيضاً: مزارعو طرطوس في دوامة الأزمات: بين ارتفاع الأسعار والطقس القاسي
مسار الليرة السورية
في الختام، تكمن الحقيقة الأبرز من مسار الليرة السورية في أن العملة ليست رقمًا عابرًا، بل امتدادٌ طبيعيٌ لنظامٍ سياسي واقتصادي يفترض أن يجسِد وحدة البلاد وهويتها.
فالتحسن الراهن، رغم بريقه، يبقى شجرةً بلا جذور ما دامت سوريا تتخبط في دوامة الانقسامات وصراع النفوذ الإقليمي، دون إصلاحاتٍ هيكلية تعيد بناء الثقة بالاقتصاد الوطني.
وهنا، يتحدد مصير الليرة عبر قدرة النخبة السياسية على تجاوز الهدنة العسكرية إلى سلامٍ اقتصادي جامع، ينهي عزلة المناطق ويعيد السوريين إلى وطنٍ واحدٍ بعملةٍ واحدة.
فهل يمكن أن تترجم هذه اللحظة التاريخية إلى فرصةٍ لاستعادة السيادة الاقتصادية، أم ستظل الليرة رهينةً لتقاسم النفوذ وأوهام الحلول المؤقتة؟