يشهد سوق السيارات في سوريا تحولاً غير مسبوق، حيث انخفضت الأسعار إلى مستويات قياسية، بعد سنوات من الارتفاع الجنوني والقيود المشددة على الاستيراد، التي جعلت امتلاك سيارة حديثة أمراً بعيد المنال لمعظم المواطنين.
وبفضل الإجراءات الجديدة التي اعتمدتها القيادة الحالية، انخفضت أسعار السيارات المستوردة بشكل ملحوظ، لتصل في بعض الحالات إلى ربع قيمتها السابقة.
وأتاح هذا الانخفاض فرصة كبيرة لشريحة واسعة من السوريين لتحقيق حلم امتلاك سيارة، لكنه في المقابل شكل صدمة قاسية للتجار الذين تكبدوا خسائر كبيرة جراء هذا التغيير المفاجئ.
عهد جديد في استيراد السيارات ورسوم جمركية رمزية
في ظل النظام السابق، فرضت السياسات الجمركية قيوداً صارمة ورسوم استيراد باهظة على السيارات، وصلت في بعض الحالات إلى 400% من قيمتها الأصلية.
كما شملت هذه الإجراءات حظر استيراد السيارات بعد عام 2011 لفترات معينة، بحجة الحد من نزيف القطع الأجنبي ومواجهة العقوبات الدولية.
ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار السيارات المتوفرة في السوق، بما فيها القديمة، إلى مستويات قياسية، مما جعل امتلاك سيارة أمراً بعيد المنال بالنسبة للمواطن العادي.
أما اليوم، فقد شهد السوق تحولاً جذرياً، بعد أن أصدرت وزارة النقل قراراً يسمح باستيراد جميع أنواع السيارات والمركبات، بشرط ألا يزيد عمرها عن 15 عاماً.
والأهم من ذلك، تم تخفيض الرسوم الجمركية إلى مستويات شبه رمزية، حيث أوضح المهندس عبد اللطيف شرتح، مدير مديرية استيراد السيارات في الوزارة، أن الرسوم أصبحت على النحو التالي: 1500 دولار أمريكي لموديلات 2011-2015، و2000 دولار لموديلات 2016-2020، و2500 دولار لموديلات 2021-2025.
وهذه التغييرات جعلت سوريا من أقل الدول فرضاً للرسوم الجمركية على السيارات المستوردة.
ولتسهيل الإجراءات، تقرر منح لوحات تجربة مؤقتة لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتجديد حتى عام، بعد الفحص الفني للسيارات المستوردة في المعابر الحدودية، تمهيداً لتسجيلها بشكل دائم.
وأوضح شرتح أنه منذ بدء تطبيق هذه السياسات، تم استيراد نحو 100 ألف سيارة، مما أدى إلى وفرة كبيرة في السوق بأسعار منخفضة، الأمر الذي لاقى ترحيباً واسعاً من المواطنين.
اقرأ أيضاً: روسيا ستعفي جميع الواردات من سوريا من الرسوم الجمركية قريباً
فرحة للمشترين.. وخسائر فادحة للتجار
هذا التراجع الحاد في الأسعار أتاح الفرصة أمام السوريين لتحقيق حلم امتلاك سيارة حديثة أو مناسبة بسعر معقول.
ويقول أحد المواطنين: “اشتريت سيارة موديل 2007 مقابل 1800 دولار، وهو مبلغ لم يكن يكفي لشراء دراجة نارية قبل بضعة أشهر، لم نكن نحلم بامتلاك سيارات في هذا البلد”.
ويشاركه الفرحة مواطن آخر، الذي تمكن من شراء سيارة “أودي 2008” بنحو 6 آلاف دولار، بعدما كان سعرها يتجاوز 22 ألف دولار، واصفاً ما يحدث بأنه “طفرة لم تشهدها سوريا منذ 50 عاماً”.
لكن هذه الفرحة يقابلها واقع صعب يعيشه تجار السيارات، خاصة أولئك الذين كانوا يمتلكون مخزوناً كبيراً اشتروه بأسعار مرتفعة قبل تغير الأوضاع.
يقول خالد صاحب متجر سيارات صغير في دمشق، إنه تعرض لخسائر بمئات الملايين من الليرات السورية، إذ تراجعت أسعار السيارات لديه إلى أقل من النصف، ويجد صعوبة في بيعها حتى بأسعار مخفضة.
حال خالد ليس استثناءً، فمئات التجار يعانون من الأزمة ذاتها، ويؤكد محمد، تاجر سيارات من القامشلي، أن سيارة مثل “سكودا أوكتافيا 2008″، التي كان سعرها يبلغ 30 ألف دولار قبل أشهر، لا يتجاوز اليوم 15 ألف دولار، مما تسبب في خسائر كبيرة.
من جانبه، يشير عبدالله، وهو تاجر آخر، إلى أنه اشترى سيارة “كيا فورتي 2010” بنحو 30 ألف دولار في نوفمبر الماضي، واليوم لا يمكن بيعها بأكثر من 8 آلاف دولار.
وهؤلاء التجار يواجهون تحديات مضاعفة، إذ يفضل المشترون السيارات الأوروبية المستوردة حديثاً، التي تتمتع بأسعار أقل، مما أدى إلى ركود كبير في بيع السيارات القديمة المسجلة سابقاً.
اقرأ أيضاً: هل ستعود المليارات السورية الهاربة من المنفى؟!
جدل حول حجم الإنفاق في سوق مضطربة
وسط هذه التطورات، ظهرت تقديرات مثيرة للجدل تشير إلى أن سوريا أنفقت نحو 4 مليارات دولار على استيراد السيارات خلال الأشهر الأربعة الأخيرة.
ودعا الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، شفيق عربش، إلى ضرورة تحليل تداعيات خروج هذه المبالغ الكبيرة من العملة الصعبة لتمويل استيراد السيارات، بغض النظر عن حالتها الفنية.
وتدعم هذه التقديرات جزئياً بيانات تجارية تركية تشير إلى استيراد سيارات من وعبر تركيا بقيمة ملياري دولار، بينما نقلت غرفة تجارة دمشق تقديرات أخرى تفيد بدفع حوالي 3 مليارات دولار لاستيراد السيارات خلال الفترة ذاتها.
ويعتقد أن هذه الواردات الكبيرة تم تمويلها أساساً من مدخرات السوريين، في ظل اقتصاد يعاني من ضعف الاحتياطيات النقدية الأجنبية وافتقار الإنتاج المحلي إلى القدرة على استيعاب مثل هذا الإنفاق.
وأثارت هذه الأرقام جدلاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية والشعبية، حيث شكك البعض في مدى دقتها، مشيرين إلى احتمال وجود مبالغة في الأرقام المطروحة.
واعتبر المنتقدون أن توجيه هذه المبالغ الطائلة نحو مشاريع إنتاجية محلية كان سيكون أكثر فائدة لتعافي الاقتصاد وخلق فرص عمل، بدلاً من فتح باب استيراد السيارات بهذا الحجم وفي هذا التوقيت، وهو ما وصفوه بقرار غير موفق.
في المقابل، اعتبر البعض أن هذه الأرقام قد تكون منطقية ومبررة في ظل الظروف الراهنة، مشيرين إلى ذلك بقولهم: “الله يهني اللي اشترى”.
ومع ذلك، أجمع الشارع السوري على ضرورة انتظار بيانات وإحصاءات رسمية وموثوقة لتحديد حجم الإنفاق الفعلي ومدى تأثيره على الاقتصاد الكلي.
وتتزامن هذه التقارير مع تأكيدات أصحاب معارض السيارات بأن أسعار السيارات المستعملة شهدت تراجعاً ملحوظاً، وصل في بعض الحالات إلى 40% أو أكثر.
ورغم هذا الانخفاض، لا يزال الطلب ضعيفاً نسبياً، كما يتضح من مثال سيارة “هيونداي أفانتي 2008″، التي انخفض سعرها بشكل كبير دون أن تجد مشترياً بسهولة.
ويرجع البعض هذا التباطؤ، إلى جانب التفاوت في الأسعار والتقلبات، إلى دخول سيارات غير موثوقة فنياً (“مقصوصة”) إلى السوق، مما أثر سلباً على حركة البيع والشراء وزاد من حالة عدم اليقين السائدة.
اقرأ أيضاً: أسواق سوريا اليوم: الأسعار متقلبة والمواطنون تحت الضغط!
نظرة اقتصادية وتحديات مستقبلية
يرى احد الخبراء، أن قرار فتح باب استيراد السيارات، رغم أنه لا يعد خاطئاً بحد ذاته، إلا أن توقيته قد لا يكون مثالياً.
ويؤكد أن الأولوية الاقتصادية لسوريا حالياً ينبغي أن تركز على تحفيز الإنتاج المحلي وتوجيه رؤوس الأموال نحو الاستثمار في خلق فرص العمل وإعادة بناء الاقتصاد، بدلاً من استنزاف العملة الصعبة في استيراد سلع استهلاكية مثل السيارات في هذه المرحلة الحساسة.
ويظل سوق السيارات في سوريا في حالة تغير مستمر، فبينما يحتفل المواطنون بإمكانية شراء سيارات بأسعار غير مسبوقة، يواجه التجار تحديات كبيرة قد تدفع بالكثيرين منهم إلى الخروج من السوق.
ويبقى المستقبل القريب هو العامل الحاسم في تحديد ما إذا كان هذا التحول سيسهم في استقرار السوق وتلبية احتياجات النقل بشكل مستدام، أم أنه مجرد طفرة مؤقتة تحمل تداعيات اقتصادية واجتماعية معقدة.
اقرأ أيضاً: هل طباعة العملة حل للأزمة الاقتصادية السورية؟