بدأت محافظة دمشق منذ أيام تنفيذ خطة لإعادة تأهيل منطقة جبل قاسيون، بهدف استعادة رونقها وجمالها، من خلال دراسة شاملة تنفذها مديريات المحافظة المعنية.
تشمل أعمال التأهيل جانبين أحدهما خدمي والآخر تجميلي، ويهدف الجانب الخدمي إلى تحديث شبكة الصرف الصحي والمياه والكهرباء وتحسين الإنارة، صيانة الأرصفة وطبقة الإسفلت، وتنفيذ جدران استنادية للمصاطب، إضافة إلى تجديد المسطحات الخضراء وتمديد شبكة الري اللازمة لها.
أما الجانب التجميلي فيشمل إنشاء أماكن شعبية مجانية تلبي احتياجات المجتمع، وتوفير مساحات ترفيهية تناسب العائلات، فضلاً عن إنشاء مرآب خاص للسيارات وتأمين الخدمات الضرورية للسكان والزوار.
اقرأ أيضاً: رحلة إلى دمشق: أجمل الأماكن التي تستحق الزيارة
ومع انتشار خبر بدء أعمال التأهيل على مواقع التواصل الاجتماعي، تداول السوريون صور مبتكرة بالذكاء الاصطناعي، تُظهر صور تخيلية للجبل بعد الانتهاء من تنفيذ الخطة، إذ رسمت هذه الصور مساحات خضراء كبيرة ومناطق لعب للأطفال ومسارات جري وطريق سريع مسفلت ومنظم.
وتفاوتت ردود الفعل على الصور والمشروع على حد سواء بين مرحّب ومنتقد، فقال “محمد” في تعليق على فيسبوك: “إن لم يتم رفع الحظر الدولي وفُتِحت البلاد أمام شركات الإعمار الدولية، لن نرى مثل هذه المناظر أبداً”، واعتبر معلّق آخر أن الأولوية يجب أن تكون لتوفير السكن للشعب، قائلاً: “نحتاج حلولاً للسكن، وليس حدائق، الإيجارات تبدأ من مليون ليرة والراتب 350 ألف، وهذه مشكلة حقيقية”.
أما “هند” فقد عبّرت عن إعجابها بالصور قائلة: “روعة، هكذا يجب أن تكون سوريا، كما كانت درة الشرق”، بينما شددت “مريم” على ضرورة بناء الإنسان أولاً قبل أي شيء آخر: “كل الخير لسوريا، لكن الأولوية يجب أن تكون لبناء الإنسان”.
في المقابل، اقترح “مؤيد” ضرورة زيادة المساحات الخضراء وتحويل المنطقة إلى شبه غابة لتساهم في تخفيض درجات الحرارة في دمشق وتخفيف ظاهرة الجزر الحرارية.
من جانبه، أشار ضياء إلى أن “البنية السياسية والاجتماعية بحاجة إلى ترميم، والشعب المدمر يحتاج إلى بناء”، مؤكداً أن الأولويات في هذه المرحلة الحرجة أكثر من مجرد مشروعات تجميلية.
اقرأ أيضاً: ضيافة العيد في دمشق.. تقاليد عريقة برائحة الياسمين
الجبل يعود للحياة
يحمل جبل قاسيون بين جنباته تاريخاً طويلاً وعميقاً في الذاكرة الشعبية لأبناء دمشق، وقد كان في الماضي ملاذاً للسوريين، يصعدون إلى سفحه للاستمتاع بالمناظر الطبيعية المبهرة التي تحيط بالعاصمة، والترويح عن النفس والهروب من ضغوط الحياة.
لكن، مع بداية الحراك الثوري السوري في عام 2011، تحوّل هذا الجبل من موقع سياحي حيوي إلى موقع عسكري محصن، وبات محظوراً على المواطنين الصعود إليه، خاصة بعدما نصب النظام السابق في الجبل فيه راجمات صواريخ ومدافع وآليات ثقيلة، فتحولت الطرق المؤدية إلى قمته إلى مناطق مغلقة ومراقبة كونه يشرف مباشرةً على دمشق.
بقي الجبل على هذا الحال حتى ديسمبر 2024، فبعد سقوط النظام، عاد ليصبح مكاناً عاماً مفتوحاً للناس، وموقعاً للاحتفالات الشعبية والتجمعات الاجتماعية، بعد سنوات من الحرمان.
اقرأ أيضاً: «قلعة حلب» رمز العنفوان رغم كُروب الزمان
تاريج جبل قاسيون حافل بالأساطير
يعود تاريخ جبل قاسيون إلى عصور قديمة، فقد شهد العديد من الأحداث التي رسمت مصير المنطقة، وبسبب موقعه الجغرافي الفريد الذي يتيح تحكماً كاملاً في محيطه، دائماً ما كان يشكّل نقطة دفاعية استراتيجية.
عُرِف الجبل باسم “الجبل المقدس” نظراً لأهميته الدينية والتاريخية في التاريخ العربي والإسلامي، ويقال إنه كان مزاراً للأنبياء والرسل، وارتبط بعدد من الحكايات التي وردت في الكتب السماوية.
ومن بين الأساطير التي يحملها في طياته، يُقال إن سيدنا آدم عليه السلام سكن سفح جبل قاسيون بالقرب من التربة البدرية، حيث شهدت المنطقة الحادثة الشهيرة التي قتل فيها قابيل أخاه هابيل، وكذلك يُقال إن “كهف جبريل” في الجبل كان المكان الذي نزلت فيه الملائكة لتعزية آدم بعد فقدان ابنه،
ومن بين الأقاويل التي تتعلق بتسمية الجبل، يُقال إن كلمة “قاسيون” تأتي من الصعوبة التي واجهها الكفار في صناعة الأصنام من صخور الجبل في زمن النبي إبراهيم عليه السلام، بسبب قسوة الصخور التي يتكون منها.
وهناك أيضاً تفسير آخر يشير إلى أن الكلمة “قاسي” تعني “الصلب” أو “المتين”، وهو ما يشير إلى طبيعة الجبل الصامدة على مر الزمن، وتعود إضافة الواو والنون إلى التأثير الكنعاني في اللغة، إذ كانت هذه الإضافة شائعة في كثير من الأسماء القديمة.
وقد أشار المؤرخ الدمشقي محمد أحمد دهمان إلى أن سكان دمشق قد استوطنوا هذا الجبل لأجيال عدة قبل أن ينتقلوا إلى السهل ويبنوا مدينتهم حول أسواره حتى امتدت وتوسعت لتصبح دمشق كما نعرفها اليوم.
اقرأ أيضاً: قصر العظم: كنز معماري وجنّة عشّاق الفخامة والأصالة
مشاريع تجميلية وخدمية في دمشق
إلى جانب أعمال تأهيل جبل قاسيون، تعمل محافظة دمشق منذ أشهر على تحسين المرافق العامة وتعزيز جمالية العاصمة، ومن الأعمال المهمة، ترميم “السيف الدمشقي”، وهو رمز ثقافي مهم استُخدم في العديد من الفعاليات الإعلامية والثقافية.
وفي أواخر الشهر الماضي، بدأت المحافظة مشروع تأهيل وتجميل “جسر الرئيس” الذي أصبح اسمه “جسر الحرية”، ويعد هذا الجسر من المحاور الحيوية التي يمر عبرها العديد من خطوط النقل العامة داخل المدينة، وتتضمن أعمال تأهيله تحسين الإضاءة، صيانة الأرصفة والأدراج، تجديد الدهان، إضافة إلى إزالة الملصقات والعيوب البصرية.
كما بينت الدراسات التي أُجريت على الجسر حاجته إلى إصلاحات بنيوية بعد الكشف عن تشققات في الأعمدة، وأكد مدير المشروع المهندس محمد خليل نصري أن المشروع لن يقتصر على الإصلاحات والتجميل فقط، بل سيشمل كذلك لمسات فنية مستوحاة من التراث السوري.
وتعدّ هذه المشروعات جزءاً بسيطاً من جهود واسعة لتحسين بنية دمشق التحتية، التي تشمل إعادة تأهيل الحدائق العامة وتجميل الساحات وإضافة رسومات على الجدران تعبّر عن الثقافة المحلية.
اقرأ أيضاً: الغاز السوري.. هل تنجح الحكومة الجديدة بعملية الإنعاش؟
مقارنة ملهمة بين جبل حفيت وقاسيون
عملت بلدية العين في الإمارات العربية المتحدة منذ أكثر من عقد على صيانة طريق جبل حفيت، أحد أجمل الطرق الجبلية في الخليج، ليصبح فيما بعد وجهة سياحية تستهوي محبي القيادة والدراجات النارية.
شمل المشروع تثبيت المناطق الصخرية المقطوعة وحماية الطريق، تجديد الأسفلت، صيانة الحواجز، تحسين المسارات وتزويد الطريق بإضاءة ليلية ومنصات للراحة والتأمل، مع إضافة مرافق سياحية مثل مواقف السيارات ومناطق الجلوس، ما أكسب المكان شعبية كبيراً وبات مقصداً للباحثين عن الاستجمام والاستمتاع بالطبيعة.
وتعدّ حديقة حيوانات العين القريبة من سفح جبل حفيت، إحدى أكبر حدائق الحيوانات في الشرق الأوسط وأجملها، تحتضن أكثر من 4,000 حيوان، وتوفر تجارب ترفيهية وتعليمية للأطفال والعائلات، مثل مسارات المشي والسفاري الإفريقية.
وإذا افترضنا أن جبل حفيت نموذجاً يمكن لجبل قاسيون أن يستلهم من تجربته، فمن الممكن أن يتحول إلى معلم سياحي بيئي أيضاً رغم الفروق الكبيرة بين الجبلين من حيث الأوضاع الاقتصادية والأمنية،
ففي سوريا، تواجه عملية تأهيل قاسيون تحديات كبيرة، أهمها الوضع الأمني غير المستقر في السنوات الأخيرة والذي جعل المنطقة حساسّة وقلل من الفرص لتطوير مشاريع سياحية مستدامة، فضلاً عن الوضع الاقتصادي المتدهور.
ومن الناحية العمرانية، فإن قاسيون محاط بالعشوائيات، وهو أمر قد يجعل التخطيط والتنفيذ معقداً إذا ما قارناه بجبل حفيت الذي يتمتع ببيئة منظمة، كما أنه يفتقر للبنية التحتية اللازمة مثل الطرق المهيأة والمرافق السياحية.
وعلى الرغم من هذه الفوارق الجوهرية، يظل هناك فرصة لتطوير جبل قاسيون تدريجياً، من خلال البدء بمشاريع بسيطة ومنخفضة التكلفة مثل إنشاء مسارات للمشي، نقاط مشاهدة منظمة ولوحات تعريفية، ومع تحسن الظروف، يمكن توسيع هذه التطويرات وتحويله إلى وجهة سياحية رائعة تشبه تجربة جبل حفيت.
اقرأ أيضاً: ماذا تستفيد سوريا من إعادة دمجها في نظام «سويفت»؟!