على مدار أكثر من عقد من الزمن، تحولت سوريا إلى واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية والاقتصادية في العالم. الحرب التي بدأت في عام 2011 لم تكن مجرد نزاع عسكري، بل أدت إلى تدمير هائل للبنية التحتية، وانهيار شبه كامل للاقتصاد، وفقدان سوريا لمئات المليارات من الدولارات. هذه الخسائر لا تتجلى فقط في الأرقام المجردة، بل تمتد إلى معاناة يومية يعيشها السوريون بسبب التضخم والبطالة والفقر وانعدام الخدمات الأساسية.
وفي ظل هذه الأوضاع، تتجه الأنظار إلى سبل التعافي وإمكانية إعادة بناء الاقتصاد السوري، وسط دعوات دولية متزايدة لرفع العقوبات وتعزيز الدعم الإنساني والاستثمارات.
خسائر تفوق التوقعات
وفقاً لتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش antonio guterres، فقد تكبد الاقتصاد السوري خسائر تقدر بـ 800 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي خلال 14 عاماً من الحرب. وهذه الأرقام تعكس تراجعاً هائلاً في مختلف القطاعات الاقتصادية، بدءاً من الزراعة والصناعة وحتى قطاع النفط، الذي كان يشكل أحد الدعائم الأساسية للاقتصاد السوري قبل الحرب.
بحسب تقديرات البنك الدولي، انكمش الاقتصاد السوري بنسبة 85%، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 67.5 مليار دولار في عام 2011 إلى أقل من 9 مليارات دولار في عام 2023. هذه النسبة تعني أن الاقتصاد السوري فقد معظم موارده، ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للعملة المحلية إلى مستويات غير مسبوقة.
البنية التحتية والخدمات: ضحية الحرب المستمرة
إلى جانب الخسائر المالية، هناك تدمير شبه كامل للبنية التحتية في مختلف المدن السورية. المستشفيات، المدارس، محطات الكهرباء والمياه، والطرق والجسور، كلها تعرضت لأضرار جسيمة، ما جعل الوصول إلى الخدمات الأساسية تحدياً يومياً للمواطنين. وقد أثر هذا التدهور على جميع جوانب الحياة، من الصحة والتعليم إلى النقل والاتصالات، ما أدى إلى إضعاف القدرة الإنتاجية للبلاد وزيادة الاعتماد على المساعدات الإنسانية.
اقرأ أيضاً: ماذا تضمن إعلان مجلس الأمن حول سوريا؟
وفي ظل هذه الأوضاع الصعبة، دعا غوتيريش المجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات فورية لدعم الاقتصاد السوري، من خلال توسيع الدعم الإنساني وإزالة العقوبات الاقتصادية التي تعيق التعافي. وقد شهد مؤتمر بروكسل للمانحين، الذي عقده الاتحاد الأوروبي، تعهدات بتقديم 2.5 مليار يورو لمساعدة الشعب السوري حتى العام المقبل. وهذا التمويل يعتبر خطوة إيجابية، لكنه لا يزال بعيداً عن تلبية الاحتياجات الفعلية اللازمة لإعادة الإعمار.
الزراعة والصناعة والنفط: تراجع عام
كان الاقتصاد السوري يعتمد قبل الحرب بشكل كبير على الزراعة، لكن مع النزاع المسلح، تراجعت المساحات المزروعة بسبب التهجير ونقص الموارد والبنية التحتية اللازمة للري والإنتاج. كما تضررت الصناعات السورية التي كانت تشكل جزءاً كبيراً من الناتج المحلي الإجمالي، لا سيما الصناعات النسيجية والغذائية التي كانت توفر فرص عمل لآلاف المواطنين.
كذلك، يعد قطاع النفط من أكثر القطاعات تضرراً في سوريا، إذ كانت البلاد تنتج قبل الحرب حوالي 385 ألف برميل يومياً، منها 238 ألف برميل مخصصة للتكرير المحلي، فيما كان يتم تصدير الباقي. ومع استمرار النزاع، تراجع الإنتاج إلى مستويات متدنية، بسبب سيطرة جهات مختلفة على حقول النفط، إضافة إلى عمليات التخريب التي تعرضت لها البنية التحتية النفطية.
تتمركز أهم الحقول النفطية في شمال شرق سوريا، في مناطق مثل الحسكة ودير الزور والرقة، حيث كانت هذه الحقول تشكل المصدر الرئيسي للنفط في البلاد. ومع اندلاع الحرب، تحولت عمليات استخراج النفط إلى طرق غير نظامية، مما أثر على جودة الإنتاج وتسبب في خسائر إضافية للاقتصاد.
اقرأ أيضاً: العراق وسوريا: مجلس تنسيقي مشترك و«الحشد الشعبي» ينتشر على الحدود
التحديات أمام التعافي الاقتصادي في سوريا
لا تزال هناك تحديات كبيرة تحول دون تحقيق تعافٍٍ اقتصادي سريع في سوريا، من بينها: استمرار النزاع السياسي وغياب الاستقرار الأمني، العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، ضعف البنية التحتية وانعدام الموارد الأساسية، تراجع قيمة العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم، عزوف المستثمرين عن دخول السوق السورية بسبب المخاطر المرتفعة.
وبينما تواجه سوريا واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها، تبقى مسألة التعافي رهناً بمدى التعاون الدولي، ومدى قدرة الحكومة السورية على تنفيذ خطوات اقتصادية وسياسية جذرية تعيد ثقة المستثمرين وتساهم في إعادة بناء البلاد.