في محاولة لزعزعة الاستقرار والسلم الأهلي عاش السكن الجامعي في حمص ليلة متوترة بعد اعتداءات طالت طلاب من محافظة السويداء، مما أدى إلى وفاة طالب وإصابة عدد آخر تم نقلهم إلى المستشفى، بالإضافة إلى مغادرة كثير من طلاب السويداء السكن الجامعي والعودة إلى منازلهم. وجاءت هذه الاعتداءات عقب تداول تسجيل صوتي لشخص يسيء إلى النبي محمد (ص) ويزعم أنه من الطائفة الدرزية، مما أدى إلى غضب لدى بعض الطلاب الذين خرجوا في مظاهرة ضمن حرم السكن الجامعي، عقبه اقتحام غرف زملائهم والاعتداء عليهم.
تدخل الأمن العام على الفور لفض المشكلة وقام بإطلاق عيارات نارية في السماء، في حين اعتقل عدد من الشبان الذين قاموا بالتحريض والاعتداء، ومن جهته أكد مدير السكن الجامعي في حمص أن السكن الآن آمن، وستتم حملة تفتيش على الوحدات السكنية لمصادرة أي سلاح موجود، وقال: الطلاب أخوة أينما كانوا، ومن جميع المحافظات السورية، نحن هنا للتعليم وليس للطائفية”، وأضاف أن الأمن العام سيبدأ اعتباراً من اليوم التالي عملية تفتيش دقيقة للغرف للبحث عن الممنوعات والأسلحة.
وفي نفس السياق خرج شيخ عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز الشيخ أبو وائل حمود الحناوي في كلمة توجه فيها إلى كافة أبناء الشعب ودعاهم إلى عدم الانجرار إلى مستنقع الطائفية وأكد أن تسجيل الصوت المسيء لا يمثل أي طائفة خصوصاً أنه لم يصدر من جهة رسمية أو مسؤولة، وأشار إلى التمسك بالسلم الأهلي ووحدة الصف ضد أي دعوات تحريضية.
ومن جهة أخرى أيضاً شهد السكن الجامعي بدمشق على إثر نفس الفيديو عدد من الاعتداءات بصورة أخف من السكن الجامعي بحمص. واللافت أنّ مدينة حمص تشهد حوادث قتل واختطاف منفلتة منذ سقوط النظام البائد، إلا إن حدة هذه الحوادث ازدادت في الأيام الماضية، فقد أسفرت عمليات القتل من قبل مجموعات مسلحة داهمت البيوت عن تصفية 7 من أصل 14 شخص بحسب المرصد السوري، بالإضافة إلى حالات القتل العشوائية التي تطال المدنيين.
اقرأ أيضاً: بين «جرائم الحرب» و«القصور المنهجي».. تقرير العفو الدولية عن أحداث الساحل
السلم الأهلي
تتنوع تعريفات السلم الأهلي بحسب المصادر إلا أن جميعها يصب في مصلحة التعايش بين الطوائف واحترام الحريات، فقد عرفت الأمم المتحدة السلم الأهلي عام 1999 بأنه “تبني سلوكيات وقيم وممارسات تحترم الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وتفضي إلى إحلال ثقافة اللاعنف والحوار بدلاً من الصراع”.
كما عرفت بعض الدراسات والأبحاث السلم الأهلي بأنه “الحالة التي يعيش فيها أفراد المجتمع بتنوعهم الديني والسياسي والعرقي، حالة من الاستقرار بعيداً عن النزاعات العنيفة، عبر مؤسسات قادرة على إدارة الخلافات بوسائل سلمية”.
تجارب ناجحة في السلم الأهلي
تنوعت تجارب الدول التي طبقت السلم الأهلي ونجحت فيه بين العدالة الانتقالية والمصالحات الوطنية، ولعل أقرب تجربة ناجحة للسلم الأهلي هي تجربة رواندا، فبعد أن انتهت الحرب فيها والتي راح ضحيتها 800 ألف شخص، بدأت الحكومة بتطبيق العدالة الانتقالية (محاكم الغاكاكا التقليدية) والمصالحات الوطنية، والتي ركزت فيها على المحاسبة والعدالة، وتعزيز الهوية الوطنية التي تجمع مختلف طوائف المجتمع بدلاً من الحديث بروح التفرقة.
ولعل تجربة جنوب إفريقيا تلفت النظر أيضاً، فبعد نهاية الفصل العنصري (الأبارتايد) عام 1994، أنشئت الحكومة لجنة التحقيق والمصالحة بقيادة الأسقف ديزموند توتو والتي تم التركيز فيها على السماح للجناة بالاعتراف الكامل مقابل العفو، وجلسات علنية جمعت الضحايا بالجلادين، وتعزيز قيم التسامح وبناء دولة ديموقراطية.
أسباب فشل بعض تجارب التعايش في بعض الدول
يمكن الحديث هنا عن نيبال التي فشلت محاولتها في تحقيق السلم الأهلي بعد عقد من الحرب الأهلية، فبالرغم من إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة ولجنة التحقيق في حالات الاختفاء القسري، إلا أنها واجهت تحديات في تطبيق مهامها، أبرزها نقص في تمويل عمل هذه اللجان وتمديد عملها سنة تلو الأُخرى مما أفقدها شرعيتها وإمكانيتها تحقيق العدالة، كما أنّ عنصر التدخل السياسي في انتقاء أعضاء هذه اللجان التي كانت متحيزة لطرف دون الآخر، لعب دوراً. بالتالي، ومن بين أسباب أخرى، لعبت العناصر السابقة دوراً في سيادة ثقافة الإفلات من العقاب بعد إلغاء عدد كبير من الشكاوى التي قدمها أهالي الضحايا، لذلك لم تحقق هذه اللجان أي تقدم ملموس في مهامها.
أما في تجربة جنوب السودان وبعد حصولها على الحق في الانفصال وتوقيع معاهدة سلام بين الفصائل التي وحدت نفسها مؤقتاً، عادت هذه الفصائل للحرب فيما بينها على السلطة والقيادة، ولعل أبرز أسباب فشل السلم الأهلي فيها هو اتهام كل طرف للطرف الآخر بمحاولة الإبادة والتفرد بالسلطة عن طريق إقصاء الطرف الآخر، عدا عن حالات القتل والحرب التي استمرّت في الدولة حتّى يومنا هذا، مما دفع الناس في جنوب السودان إلى طلب الحماية الدولية والتدخل الدولي لإرساء السلام وإزالة الأسباب الجذرية لاستمرار القتال، وكل ذلك وسط وضع أمني واقتصادي مزرٍ.
باختصار، السلم الأهلي يحتاج إلى رغبة حقيقية لدى الأطراف جميعها بإحلال السلام والعدالة وبناء دولة دولة ديموقراطية تضم جميع أبناء الوطن دون إقصاء أي طرف، وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية.
الجبهة الداخلية والجبهة الخارجية
لا يمكن لاثنان أن يتابعا ما يجري في سوريا اليوم، إلّا وأن يتبيّن لهما أنّ هناك أيادٍ خارجية تحاول العبث بالاستقرار وتعكير صفو السلم الأهلي. فليس من قبيل المصادفة أن تشتعل أكثر من جبهة، وأن يتم التحريض ورفع خطاب الكراهية بأبشع صوره، بشكل متزامن في أكثر من مكان.
هناك كثيرون ممّن يرغبون بأن تفشل الإدارة السياسية الجديدة في سوريا، وبعض هؤلاء لديهم أجنداتهم الخاصة، ويملكون موارد استخباراتية مرتفعة ذات خبرة في إشعال الفتن الطائفية والعرقية. لكن في المقابل، وجود مثل هذه الخطط والأجندات الخارجية لمثيري الفتن، لا يعفي أحداً في الداخل من مسؤولياته في حفظ الأمن، لا السلطة ولا الناس العاديون.
فالسلطة عليها أن تسارع لإخماد مواطن الفتن عبر الحوار السياسي المنفتح، وعبر تطبيق القانون على جميع من يخرق القانون. والناس العاديون عليهم النظر أبعد من التخويف والتهويل الفيسبوكي، واستذكار أنّ الفتن قد تؤدي إلى الدمار، بينما العيش والسلم الأهلي يتطلّب الحكمة لتنجو هذه البلاد من الدمار الذي نعيش آثاره منذ أعوام.
اقرأ أيضاً: رواندا.. «العدالة الانتقالية» وإعادة الإقلاع ما بعد الحرب!