السبت 9 أيلول/سبتمبر 2023
تبدأ الأمم بعكس مسار انحدارها والارتقاء مجددًا على سلم الحضارة، حين تثق بإمكانيات وقدرات شبابها الخلاقة التحررية والمدنية، وحكمة عقلائها وخبراتهم وقيمهم، حين يجتمعون في مركب واحد عنوانه المصلحة العامة والقيم المجتمعية والإنارة الفكرية التحررية. تلك التي قالت عنها قبل قرون حضارة اليونان بأنها الشأن العام “Res-politica” في ثلاثية متكاملة هي الدولة. فهل نخطو اليوم مجددًا في سوريا نحو استعادة هويتنا السورية كشأن عام ونستعيد الإمساك بزمام المبادرة وعودة تمركز قضيتنا السورية في داخلها وعلى أسس محتواها وقيمها الوطنية؟
ها هم السوريون اليوم يبادرون من جديد في موجة ثورية جديدة تعاند مسار الانحدار والهدم العام، فللأسبوع الثالث على التوالي تستمر المظاهرات السلمية في محافظة السويداء وتتجاوب معها بعض المدن السورية، معيدة إحياء مسيرة الثورة السورية التي انطلقت في آذار 2011. تكتظ ساحة الكرامة في السويداء بكل أطياف المجتمع من شباب وشابات، ورجال دين وسيدات، وسياسيين معارضين وفرق عمل مدنية.. تجمعهم مطالب الحرية والكرامة والعيش الكريم في دولة المواطنة، وتبرز على واجهة حراكها إحياء التراث الفني للمحافظة من أغان وهتافات تسترجع ذاكرة السوريين في بدايات ثورتهم، وكأنه عرس وطني على مساحة وطن.
في ساحة الكرامة روح سلطان الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي ويوسف العظمة تحيا من جديد بعد أن طمستها سلطة العسكر الاستبدادية ذات القيادة المطلقة الخالدة البعثية. صور عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وناصر بندق وخليل معتوق، المعتقلين في سجون النظام، وكل المعتقلين من كل أرجاء سوريا حاضرة في ساحة الكرامة. أما ساحة الكرامة فهو الاسم الذي أطلقه المتظاهرون السلميون عام 2015، على الساحة التي كان اسمها “ساحة السير” أو “ساحة التمثال” سابقًا، إذ يذكر أنه في مثل هذا اليوم 4/9/2015 وبعد تفجير مركب قيادة حركة رجال الكرامة وقضاء غالبية قيادتها، اندفع شباب المحافظة للساحة وهدموا تمثال الأسد المسمى بـ”الخالد” و”صانع أمجاد الأمة ومستقبلها” زورًا واستبدادًا، في حين كان ونظامه رمز هدمها واعتقال شبابها وانهيار قيمها. واليوم تعود هذه القيم في الانبعاث من جديد والساحة اسمها ساحة الكرامة، وموعد جديد مع عودة الروح للسوريين بعد يأس وقنوط. وتعاد ذات الكرة اليوم، حين يقفل المتظاهرون مقار حزب البعث، ويزيلون صور رموز السلطة من كل المحافظة. ولمصادفة تاريخية أيضًا، يقوم المتظاهرون اليوم بتحطيم رأس تمثال موجود في مقر البلدية مقابل الساحة.
في السنوات الخمس الماضية وبعد العام 2018 عندما تم إفراغ الداخل السوري وتهجير سكانه ودمار معظم مدنه، استنقعت المسألة السورية سياسيًا تتقاسمها أطراف النفوذ والجيوش والميليشيات متعددة الانتماء والمصالح، وكل فريق يحاول نهش حصته من الكعكة السورية. هذا الاستنقاع الطويل انعكس على المجتمع السوري بشكل كارثي، أجاد ابن خلدون في وصفه في مقدمته الشهيرة قبل 1000 عام من اليوم وكأنه يحيا بيننا: “عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف. وتظهر العجائب وتعم الإشاعة، ويتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق، ويعلو صوت الباطل، ويخفُت صوت الحق. وتظهر على السطح وجوه مريبة. وتختفي وجوه مؤنسة، وتشح الأحلام ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه. ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقًا، وإلى الأوطان ضربًا من ضروب الهذيان”. هذا الهدم المجتمعي الذي طال السوريين تمثل في مستويات عدة يمكن إيجازها على سبيل الإشارة والدلالة لا الحصر:
- مستوى التباعد العام بين مكونات الشعب السوري وازدياد حدة المظلوميات من كل الأصناف، وكل فريق يرى في مظلوميته المظلومية القصوى.
- تزايد حدة التقوقع الإثني والطائفي والديني وتنامي ظواهر التعصب والإيديولوجيات المرافقة.
- تحاجز سياسي وفرط نمو في المكونات السياسية السورية والتي قلما تقاربت وتوافقت فيما بينها بقدر كل فريق يحمّل الأطراف الأخرى مسؤولية الكارثة السورية التي نعيشها.
- خبو الحلول العامة للمسألة السورية وفرط نمو في الحلول الفردية والجزئية التي فتحت المجال الواسع للانتهازية والنفعية المحضة على اتساع بواباتها.
- تفكك أسروي تزايدت معه حالات الطلاق ويُتم الأبناء وتراجع حاد في قيم الألفة والانتماء وتنامي الفردانية على حساب القيم العامة، مترافق مع الجوع والحاجة التي بات يعاني منها أبناء الداخل السوري، وانتشار أفقي للأسرة الواحدة كل في بلد لجوء أو هجرة.
- ارتفاع شأن أمراء الحرب والقتل والسلب على حساب أصحاب الشهادات العلمية مع تراجع فاضح في قيمة المتعلمين والعلم أمام أصحاب المال دون السؤال: من أين لكم ذلك؟
- تراجع أصوات العقلانية السورية وبهت إنارتها مع طفو المساحات المظلمة للمشاريع السياسية القصيرة والانتفاع المدني والميليشياوي من جراء الكارثة السورية، حتى بات المثقف السوري يشعر بغربة مضاعفة ويزداد انزواءً، فإن كتب قلما يقرأ له والقول المتردد “شبعنا تنظيرًا”.
تبقى النقاط أعلاه مجرد إشارات ليست للتعميم بل تستوجب الدراسة والتحليل وإعادة التقييم في الأسباب وطرق الحل الممكنة. أما في السويداء، مركز الحدث السوري اليوم، فقد تزايدت خلال نفس الفترة هجرات شبابها هذا العام، ومن بقي منهم فيها لا يستطيعون الخروج خارج المحافظة للملاحقات الأمنية التي تطول معظم شبابها. مترافقة مع تزايد عصابات الخطف والإجرام والسلب والنهب والاتجار بالمخدرات، وبات كل سوري يحاول الدخول إلى المحافظة عرضة للاختطاف والابتزاز المالي. حتى وصفت المدينة بشيكاغو سوريا. هذه الظاهرة التي طالما حللنا أبعادها بكونها تتبع للأجهزة الأمنية ومشغليها، تستهدف جمع المال من جهة، وشيطنة وعزل السويداء عن محيطها الحيوي من جهة أخرى، وتشغيل شبابها العاطل عن العمل في تأمين خط المخدرات لدول الخليج من جهة أخرى.
اليوم، وللأسبوع الثالث، لم تشهد المحافظة حالة خطف أو سلب أو نهب، ونادرًا ما ذكر أي منها، والأهم من هذا تكتظ ساحة الكرامة بشتى صنوف المجتمع وفي مقدمتهم النساء والشباب المدني، يتظاهرون في لحمة وانسجام مع رجال الدين وأبناء العشائر، لا يفرقهم جنس أو عرق أو دين، مصرين على وحدة الهوية السورية بكل انتماءاتها العرقية والدينية والسياسية والفكرية. وهذا مؤشر حيوي على استعادة السوريين لزمام المبادرة في استرجاع قضيتهم في جوهرها، وجوهر المسألة السورية كان ولا زال، دولة المواطنة، دولة الحق والقانون لا استبدال سلطة بأخرى. دولة لا فرق فيها بين عربي أو كردي، سني أو درزي أو علوي أو مسيحي، فجميعهم متساوون بالحقوق والواجبات والحريات. وهو ذات الجوهر التي انطلقت منه عام 2011، ويعاد إحياؤه من جديد مرفوعًا على قيم السوريين المدنية، فسوريا “بلاد الشمس”، كما كانت تعرف تاريخيًا، ومركز إنارة وحياة لأبنائها ومحيطها العام، وتنبعث من تحت الرماد من جديد، فهل نكون؟ كلنا أمل.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
- جمال الشوفي كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.