كثيراً ما تفرض السياسة الدولية قواعد اشتباك معقدة، قد يتداخل فيها الخصوم والحلفاء في لحظات حرجة، تفرض تعاوناً قد لا يظهر للعلن، لكنه يخدم مصالح مشتركة حساسة. هذا تحديداً ما تكشفه حادثتان تم تداول تفاصيلهما مؤخراً في الصحافة العالمية، مشيرة إلى وجود تعاون سوري أمريكي أمني «من تحت الطاولة»، في تطور يطرح أسئلة حول مستقبل العلاقات بين دمشق وواشنطن في مرحلة ما بعد النظام السابق.
الحادثة الأولى: تفكيك موقع عسكري لتجنب مواجهة مباشرة
كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» مؤخراً عن استجابة الإدارة السورية الجديدة لطلبٍ من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، يقضي بتفكيك موقع عسكري مهجور كان يُستخدم سابقاً لإطلاق الصواريخ من قبل مجموعات مرتبطة بإيران داخل الأراضي السورية.
وفقاً لمسؤول عسكري أمريكي، فإن القوات الأمريكية كانت على وشك تنفيذ ضربة جوية تستهدف هذا الموقع بسبب تهديده الأمني المحتمل، لكن التواصل السريع وغير المتوقع مع حكومة دمشق أسفر عن إجراء سريع وفعال، حيث قامت الأخيرة بتفكيك الموقع بشكل عاجل. الأمر الذي أدى إلى إلغاء الضربة وتجنّب وقوع خسائر جانبية أو تصعيد عسكري بين الطرفين.
اقرأ أيضاً: أمريكا تقول إن حلفاء إيران شنوا 140 هجوماً على قواعدها في سوريا والعراق
تعاون ضروري
تتحدث التقارير الأمنية عن كون استمرار وجود مجموعات موالية لإيران داخل سوريا يمثل مصدر قلق مشترك، ليس فقط للولايات المتحدة بل أيضاً للإدارة السورية الجديدة التي تسعى لإعادة هيكلة أمنها الداخلي والخارجي بشكل مستقل نسبياً عن التأثيرات الإيرانية، خاصة بعد سقوط النظام السابق. هذا السياق يجعل من التعاون الأمني مع واشنطن فرصة لدمشق لإظهار جدية خطواتها نحو استعادة السيادة الأمنية وتقليص النفوذ الخارجي.
الحادثة الثانية: معلومات استخباراتية أمريكية لمنع هجوم إرهابي
من جهة أخرى، نقلت صحيفة «واشنطن بوست» في وقت سابق أن المخابرات الأمريكية قدمت معلومات سرية دقيقة للحكومة السورية الجديدة حول تخطيط تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» لشن هجوم يستهدف مقام السيدة زينب بريف دمشق، وهي منطقة ذات رمزية دينية وأمنية بالغة الحساسية.
وأفادت التقارير بأن المعلومات الأمريكية مكّنت قوات الأمن السورية من إحباط الهجوم بشكل كامل، الأمر الذي يؤكد على وجود تنسيق أمني عالي المستوى بين الطرفين رغم عدم الإعلان الرسمي عن ذلك.
اقرأ أيضاً: كاريكاتير: أمريكا والشرق الأوسط
دوافع أمريكا
بالتأكيد، من المبكر جداً النظر إلى هذا التعاون باعتباره دعماً مباشراً من قبل واشنطن لدمشق أو اعترافاً كاملاً بشرعية القوى المسيطرة حالياً، بقدر ما يُعدّ تفاهماً عملياً مؤقتاً تفرضه الظروف الأمنية المتشابكة. لكن هاتان الحادثتان، ورغم طابعهما السري، تدفعان للتفكير في مستقبل العلاقة بين سوريا والولايات المتحدة. إذ إن هذا التعاون قد يمهد لمرحلة جديدة من التفاهمات غير المعلنة، باتجاه تفاهمات معلنة في وقت لاحق.
لكن تاريخياً، شهدت العلاقات بين سوريا وأمريكا تعاوناً أمنياً وعسكرياً في محطات بارزة، رغم التوترات المستمرة بينهما. من الأمثلة على ذلك التعاون عام 1983 في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، عندما ساهمت سوريا في تأمين انسحاب القوات الأمريكية من لبنان بعد التفجير الكبير الذي استهدف ثكنة المارينز في بيروت. كذلك خلال حرب الخليج عام 1991، انضمت سوريا إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت من الغزو العراقي، في خطوة عكست تقاطع المصالح بين دمشق وواشنطن في لحظة تاريخية استثنائية.