لم يكن يخطر ببال السوريين يومًا أن بلدهم، الذي كان يصدّر الكهرباء إلى دول الجوار، سيعاني من عجز تام في تأمين التيار لسكانه، لكن مع اندلاع الحرب وتدمير البنية التحتية، تغير المشهد جذريًا، ليجد المواطنون أنفسهم مضطرين للبحث عن بدائل لتغطية العجز الكبير، بتكاليف تفوق أضعاف ما كانوا يدفعونه سابقًا.
ومع تفاقم أزمة الكهرباء، ظهر نظام الأمبيرات في سوريا، الذي يعتمد على مولدات خاصة تدار بشكل فردي أو جماعي لتزويد المشتركين بالكهرباء مقابل اشتراكات أسبوعية أو شهرية.
ورغم أنه بدأ كحل مؤقت في بعض المناطق، سرعان ما تحول إلى نظام شبه دائم، لا سيما في العاصمة دمشق، حيث أصبح جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية، رغم تكلفته المرتفعة والتحديات المحيطة به.
انتشار نظام الأمبيرات
انتشر نظام الأمبيرات على نطاق واسع في دمشق بعد عام 2020، عندما ازدادت ساعات التقنين الكهربائي نتيجة تدهور شبكة الكهرباء الوطنية وانخفاض إنتاج المحطات الحرارية بسبب نقص الوقود.
وبدأت الفكرة في حلب، ثم امتدت إلى دمشق، التي أصبحت تعتمد عليه بشكل كبير، خاصة في الأحياء التجارية والمناطق التي تعاني من انقطاع شبه دائم للكهرباء.
في البداية، كانت المولدات صغيرة ومحدودة الاستخدام، لكن مع تزايد الطلب، ظهرت مولدات ضخمة تخدم أحياء بأكملها أو مجمعات تجارية، مما جعل قطاع الأمبيرات صناعة قائمة بحد ذاتها، رغم عدم اعتراف الحكومة السورية به رسميًا.
اقرأ أيضاً: وزير الكهرباء: ساعات التغذية الكهربائية سترتفع حتى 10 ساعات قريباً
أسعار الأمبيرات في دمشق: كيف تغيّرت؟
كانت الأسعار في البداية مقبولة نسبيًا، إذ تراوحت بين 5000 و8000 ليرة سورية للأمبير الواحد أسبوعيًا، لكن مع تدهور قيمة الليرة وارتفاع أسعار الوقود وصعوبة تأمين المازوت اللازم لتشغيل المولدات، ارتفعت التكاليف بشكل غير مسبوق.
اليوم، تختلف أسعار الأمبيرات في دمشق بحسب المنطقة والمزود، حيث تتراوح بين 13,500 و16,500 ليرة سورية للأمبير الواحد أسبوعيًا، هذا يعني أن العائلة التي تحتاج إلى 3 أمبيرات قد تدفع أكثر من 240,000 ليرة شهريًا، وهو مبلغ يعادل أكثر من نصف راتب الموظف الحكومي، كما يعتمد السعر على عدد ساعات التشغيل، والتي غالبًا ما تكون 12 ساعة يوميًا، من الصباح حتى المساء.
لكن حتى مع هذه الأسعار المرتفعة، لا يلتزم مستثمرو الأمبيرات دائمًا بساعات التشغيل المتفق عليها مع المشتركين.
في بعض الأحياء، مثل حي التضامن، يشتكي السكان من أن أصحاب المولدات يفرضون تقنينًا خاصًا بهم، على غرار ما تفعله الحكومة، حيث يتم تشغيل المولدات لفترات أقل من المتفق عليها، وأحيانًا لا تتجاوز 9 ساعات يوميًا، رغم الاتفاق على 13 ساعة.
وغالبًا ما يتذرع أصحاب المولدات بنقص كميات المازوت المتاحة لهم، أو يدعون حدوث أعطال متكررة، دون تعويض المشتركين عن فترات الانقطاع.
وخلال الشهرين الماضيين، شهدت سوق الأمبيرات في دمشق بعض التغيرات، فمع تحسن طفيف في التغذية الكهربائية ببعض الأحياء، انخفض الطلب قليلًا، لكن لا تزال مناطق كثيرة تعتمد عليها بشكل أساسي.
هل هناك قوانين تنظم عمل الأمبيرات في دمشق؟
بينما تحاول الحكومة فرض بعض القيود على الأسعار وتنظيم السوق، لا تزال هذه المحاولات محدودة، إذ لا توجد قوانين واضحة تلزم أصحاب المولدات بالأسعار المحددة، كما أن بعضهم يعمل دون أي ترخيص رسمي.
فالحكومة تغض الطرف عن انتشار الأمبيرات لعدم قدرتها على توفير الكهرباء بشكل مستمر، لكنها تحاول أحيانًا فرض ضرائب أو تنظيم التسعير.
وفي دمشق، ألزمت بعض المناطق أصحاب المولدات بالحصول على تراخيص ودفع رسوم، لكن التنظيم الكامل لا يزال بعيد المنال، إذ تبقى العلاقة بين المشتركين وأصحاب المولدات غير محكومة بإطار قانوني واضح.
كما أنه لا توجد ضرائب رسمية مفروضة على مزودي الخدمة، لكنهم يواجهون أحيانًا رسومًا غير مباشرة أو مطالبات بـ”مساهمات” لضمان استمرار عملهم دون عوائق قانونية.
ويبدو أن هذه الفوضى تصب في مصلحة بعض الجهات النافذة، فمع تفشي الفساد في مختلف قطاعات الخدمات، تحولت أزمة الكهرباء إلى فرصة استثمارية لعدد من المتنفذين، بما في ذلك التجار الذين يتحكمون بالسوق دون أي رقابة حقيقية، بل ويتحكمون بأسعار الاشتراكات ويفرضون شروطهم على السكان دون أي مساءلة.
اقرأ أيضاً: وزن ربطة الخبز: استراتيجية للحفاظ على المخزون أم خسائر اقتصادية؟
المخاطر البيئية والصحية
إلى جانب التكلفة المرتفعة، يرتبط استخدام الأمبيرات بالعديد من المخاطر الصحية والبيئية، فمن الناحية البيئية، تعاني دمشق من تلوث الهواء بسبب انبعاثات المولدات التي تعمل على المازوت، مما يفاقم مشكلات الجهاز التنفسي لدى السكان.
كما أن الضجيج المستمر لهذه المولدات يشكل مصدر إزعاج دائم، خاصة في المناطق السكنية، أما من ناحية السلامة، تعتبر التمديدات الكهربائية العشوائية مصدرًا رئيسيًا للحوادث، بما في ذلك الحرائق والصدمات الكهربائية.
ومع غياب أي رقابة حكومية فعلية على هذه الشبكات، تزداد المخاطر يومًا بعد يوم، مما يعرض حياة السكان للخطر.
اقرأ أيضاً: إيطاليا تخصص 4.5 مليون يورو كمساعدت عاجلة لسوريا
هل الأمبيرات حلٌّ مؤقت أم دائم؟
رغم أن البعض يرى أن الأمبيرات تمثل حلًا مؤقتًا حتى تتحسن التغذية الكهربائية الحكومية، إلا أن خبراء الاقتصاد والطاقة يرون أنها باتت جزءًا لا يتجزأ من اقتصاد الظل في سوريا، فقد نشأت شبكة واسعة من التجار والمستثمرين الذين استفادوا منها بشكل كبير، مما يجعل إلغاءها أمرًا معقدًا دون تقديم بدائل حقيقية.
وفي ظل استمرار أزمة الكهرباء الحالية، يؤكد المختصون أن الأمبيرات لا تزال الخيار الوحيد المتاح لمعظم السكان، خاصة في العاصمة دمشق، نظرًا لعدم قدرة معظم العائلات على تحمل تكاليف الانتقال إلى تقنيات مثل الطاقة الشمسية، بسبب تكلفتها المرتفعة، حتى مع الدعم الحكومي عبر القروض.
ويرى خبراء أنه رغم الجهود التي تبذلها السلطات لتنظيم هذا القطاع، سواء من خلال محاولات ضبط الأسعار أو إدخاله ضمن إطار قانوني يحدد معاييره وشروطه، إلا أن الأمبيرات ستبقى جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية للسوريين، على الأقل في المستقبل القريب، ما لم تُتخذ خطوات جدية لإنهاء أزمة الكهرباء التي تعاني منها البلاد منذ سنوات طويلة.
فوضى بلا ضوابط!
مع سقوط النظام السابق وانهيار العديد من القطاعات الخدمية، أصبحت المعلومات المتاحة حول تطور نظام الأمبيرات وانتشاره أقل وضوحًا وتفصيلًا، مما أوجد فجوة معرفية حول هذا القطاع الحيوي.
ومع ذلك، ومن خلال متابعة عدد من الحالات عن قرب بجهود مراسلينا، يمكن ملاحظة أن الأمبيرات قد تفشّت بشكل كبير في بعض المناطق وأصبحت أكثر انتشارًا كحل عشوائي يسدّ الفجوة في غياب حلول بديلة منظمة.
ففي منطقة ضاحية حرستا، ازداد الاعتماد على الأمبيرات دون أي ضوابط تنظيمية حقيقية، بينما شهدت أماكن أخرى مثل داريا تغييرات جذرية في آلية عمل هذا النظام، فقد تم تخفيض تسعيرة الأمبيرات إلى 8 آلاف ليرة سورية بعد أن كانت تتراوح بين 13 و14 ألف ليرة، مع توفير الوقود اللازم للمولدات بتسعيرة ثابتة أيضًا.
ومع ذلك، لا تزال الآلية التنظيمية غير واضحة تمامًا، وكذلك كيفية تغطية الفروقات المالية الناتجة عن هذا التخفيض.
هذه الاختلافات تعكس حالة من التباين والفوضى في إدارة ملف الكهرباء البديلة، مما يبرز الحاجة الملحة إلى خطوات حكومية أكثر شمولية وفعالية لتنظيم هذا القطاع أو تقديم بدائل مستدامة تخفف من معاناة المواطنين وتضع حدًا لأزمة الكهرباء المستمرة.
اقرأ أيضاً: ما الذي حدث في الساحل السوري؟
اقرأ أيضاً: ردود الفعل الدولية والعربية على التطورات في الساحل السوري