من دمشق إلى واشنطن، حملت رسالة سورية حديثة نبرة مختلفة، نبرة تسعى لكسر جليد سنوات من العقوبات والقطيعة. وفي نصٍ خطي اطّلعت عليه وكالة «رويترز» Reuters، فتحت سوريا أبواب التفاهم المشروط مع الولايات المتحدة، مقدّمةً تعهدات واضحة في بعض الملفات، ومُلمحةً إلى حاجة «تفاهمات متبادلة» في أخرى. وكما يبدو، بين التزامات حذرة إزاء «إسرائيل»، وتحركات ملموسة بخصوص المفقودين والأسلحة الكيميائية؛ تحاول دمشق إعادة صياغة موقعها الإقليمي والدولي في لحظة دقيقة تختبر فيها توازنات ما بعد الحرب.. فكيف كان الرد على شروط واشنطن؟
ردّت سوريا خطياً على قائمة الشروط الأميركية لتخفيف العقوبات، مؤكدةً أنها استوفت معظم المطالب فيما تحتاج بعض القضايا إلى «تفاهمات متبادلة» مع واشنطن. وكانت الولايات المتحدة قد سلمت دمشق في آذار/مارس الماضي قائمة من ثمانية شروط، تشمل تدمير أي مخزونات كيميائية متبقية، وضمان عدم تولي الأجانب مناصب حكومية رفيعة.
وفي الوثيقة المؤلفة من أربع صفحات، تعهدت سوريا بإنشاء مكتب ارتباط في وزارة الخارجية للبحث عن الصحفي الأميركي المفقود أوستن تايس Austin Tice، كما استعرضت جهودها في التعامل مع الأسلحة الكيميائية وتعزيز التعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
غير أن الرسالة بدت أكثر تحفظاً في تناول قضايا أخرى، مثل إزالة المقاتلين الأجانب والسماح للولايات المتحدة بشن ضربات لمكافحة الإرهاب.
وأكد متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية أن واشنطن تلقت الرد السوري، مضيفاً: «نحن الآن نقيم الرد ولا يوجد ما نعلنه في الوقت الحالي»، مشدداً على أن الولايات المتحدة «لا تعترف بأي كيان باعتباره حكومة سوريا»، وأن تطبيع العلاقات مستقبلاً «سيعتمد على أفعال السلطات الانتقالية».
اقرأ أيضاً: شروط أمريكية لتخفيف العقوبات على سوريا.. هل تستجيب دمشق للمطالب؟
ملف المقاتلين الأجانب
أوضحت الرسالة أن مسؤولين سوريين ناقشوا قضية المقاتلين الأجانب مع المبعوث الأميركي السابق دانيال روبنستين Daniel Rubinstein، لكن المسألة «تتطلب جلسة تشاورية أوسع». وجاء في الرسالة: «ما يمكن تأكيده الآن هو تعليق منح الرتب العسكرية بعد التعيينات التي شملت ستة أفراد»، في إشارة إلى تعيين مقاتلين أجانب بينهم من الإيغور وأردني وتركي في ديسمبر.
لم توضح الرسالة ما إذا كانت هذه الرتب قد أُلغيت ولم تحدد خطوات مستقبلية. وأشار مصدر مطلع على الموقف السوري إلى أن دمشق تسعى لتأجيل حسم هذا الملف قدر الإمكان، انطلاقاً من موقف يرى أن المقاتلين الأجانب الذين ساهموا في إسقاط الأسد يستحقون معاملة جيدة.
التعاون في مكافحة الإرهاب
فيما يتعلق بالتنسيق مع الولايات المتحدة بشأن مكافحة الإرهاب وتنفيذ الضربات الجوية، قالت الرسالة إن «الأمر يتطلب تفاهمات متبادلة». وأكدت أن الحكومة السورية الجديدة لن تتسامح مع أي تهديدات للمصالح الأميركية أو الغربية، متعهدةً باتخاذ «إجراءات قانونية مناسبة» دون توضيح إضافي.
وكان الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع قد صرّح سابقاً أن وجود القوات الأميركية في سوريا يجري «دون موافقة حكومية»، مشدداً على ضرورة أن يتم هذا الوجود «بموجب اتفاق مع الدولة».
وقال مصدر سوري مطلع على الرسالة إن دمشق تبحث عن وسائل بديلة لمحاربة المتطرفين دون منح واشنطن إذناً صريحاً بشن ضربات، خاصةً بعد سنوات من الغارات الأجنبية على أراضيها.
التزامات تجاه «إسرائيل»
وقال دبلوماسي رفيع ومصدر آخر مطلع لـ«رويترز» Reuters إن الرسالة عالجت خمسة مطالب بالكامل، بينما بقيت ثلاث قضايا «عالقة». وأوضح المصدران أن الرسالة أُرسلت بتاريخ 14 نيسان/أبريل، قبل عشرة أيام من خطاب الشيباني أمام مجلس الأمن في نيويورك.
ولم يُعرف بعد ما إذا كانت الولايات المتحدة قد ردت رسمياً على الرسالة السورية، فيما أكد مسؤول سوري ومصدر أميركي مطلعان أن الشيباني يعتزم مناقشة تفاصيل الرسالة مع المسؤولين الأميركيين خلال زيارته إلى نيويورك.
وأشارت الرسالة إلى أن الخطوات التي اتخذتها سوريا، والتي وصفتها بـ«الضمانات»، يجب أن تفتح الباب لعقد اجتماع لبحث كل بند بالتفصيل، بما يشمل إعادة فتح السفارات ورفع العقوبات.
التعامل مع الفصائل الفلسطينية
أفادت الرسالة أن الشرع أنشأ لجنة «لمراقبة أنشطة الفصائل الفلسطينية»، وأكدت أن «الجماعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة لن يُسمح لها بالعمل». وجاء ذلك قبل أيام من اعتقال سوريا مسؤولين من حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني.
وأضافت الرسالة: «بينما يمكن مواصلة النقاش حول هذا الملف، إلا أن الموقف الأساسي يتمثل في عدم السماح بأن تتحول سوريا إلى مصدر تهديد لأي طرف، بما في ذلك إسرائيل». كما كشفت عن «اتصالات مستمرة» بين السلطات السورية لمكافحة الإرهاب وممثلين أميركيين في العاصمة الأردنية عمان، حول محاربة تنظيم داعش، مشيرةً إلى رغبة دمشق بتوسيع هذا التعاون.
اقرأ أيضاً: مجريات ونتائج جلسة مجلس الأمن حول سوريا.. هل صدر قرار نهائي؟
هكذا، وبين سطور الرسالة السورية، تتقاطع رسائل الطمأنة مع رسائل الحذر، في محاولة لإعادة رسم حدود الدور السوري على الساحة الدولية. وبينما تنتظر دمشق ردّ واشنطن، يبقى مصير العقوبات وتطبيع العلاقات معلقاً بخيط رفيع من التفاهمات المنتظرة. وفي ظل معادلات إقليمية متغيرة، تبدو كل كلمة مكتوبة وكل التزام معلن كحجر أساس في بناء مرحلة جديدة، قد تفتح الطريق أمام تسويات أوسع، أو تعيد إنتاج مشهد التعقيد مرة أخرى.