شكّلت تجربة رواندا واحدة من أبرز التجارب العالمية في البناء والتنمية بعد الحرب، حيث تمكنت هذه الدولة الصغيرة الواقعة في شرق أفريقيا من تجاوز واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث، والانطلاق نحو بناء دولة قوية اقتصادياً واجتماعياً خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة عقود معتمدة على ثلاثة مستويات من العدالة لإرساء العدالة الانتقالية.
لم يكن العام 1994 عاماً عاديّاً في رواندا، فقد دخلت البلاد في نيسان/أبريل من ذاك العام مرحلة مظلمة من تاريخها، حيث شهدت إبادة جماعية مروّعة راح ضحيتها حوالي مليون إنسان خلال 100 يوم فقط! كانت الصراعات القبلية بين قبيلتي «الهوتو» و«التوتسي» هي الشرارة التي أحرقت البلاد وأغرقتها في مستنقع الدماء، وأدت إلى تدمير البنية التحتية وانهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة.
إعادة بناء الدولة.. العدالة والمصالحة أولاً
بعد انتهاء الحرب، شرعت رواندا بقيادة الرئيس بول كاغامي في تطبيق سياسة صارمة لتحقيق العدالة الاجتماعية والمصالحة الوطنية. ولمواجهة التحديات الهائلة، اعتمدت رواندا على ثلاثة مستويات من العدالة:
- المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR): أُنشئت بواسطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نوفمبر 1994 لمحاكمة المسؤولين الرئيسيين عن الإبادة الجماعية. بحلول ديسمبر 2012، أصدرت المحكمة 61 حكماً بالإدانة و14 حكماً بالبراءة.
- المحاكم الوطنية: تولت محاكمة المتهمين بارتكاب فظائع خطيرة. بحلول منتصف عام 2006، حاكمت هذه المحاكم حوالي 10000 مشتبه بهم. في عام 2007، ألغت رواندا عقوبة الإعدام، مما سهل نقل القضايا من المحكمة الجنائية الدولية إلى المحاكم الوطنية.
- محاكم «غاشاشا – Gacaca» التقليدية: استندت إلى تقاليد العدالة المجتمعية الرواندية، وهدفت إلى التعامل مع العدد الكبير من القضايا المتراكمة. بدأت هذه المحاكم عملها في عام 2001، وبحلول عام 2012، كانت قد نظرت في حوالي 1.2 مليون قضية، مما ساهم في تسريع عملية المصالحة الوطنية.
اقرأ أيضاً: لجنة للتحقيق في أحداث الساحل.. من هم أعضاء اللجنة وما هي صلاحياتهم؟
مكافحة الفساد.. سر النجاح
أحد أهم أسباب النجاح في التجربة الرواندية هو الالتزام الصارم بمحاربة الفساد. طبّقت الحكومة قوانين مشددة على المسؤولين الحكوميين، وفرضت رقابة صارمة على أداء المؤسسات، وهو ما أدى إلى تحسين مناخ الاستثمار وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، فضلاً عن تعزيز الشفافية والثقة في المؤسسات العامة.
ووفق تقارير النمو الاقتصادي في رواندا، الصادرة عن البنك الدولي، فقد شهدت رواندا نمواً اقتصادياً مذهلاً خلال العقدين الماضيين، بلغ متوسطه نحو 8% سنوياً، لتصبح واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في أفريقيا والعالم. واعتمدت رواندا على سياسات اقتصادية مدروسة مثل تعزيز الاستثمار في البنية التحتية، وتطوير قطاعات السياحة والزراعة والتكنولوجيا، ما جعلها وجهة استثمارية جاذبة للعديد من الشركات العالمية.
التعليم والصحة.. حجر الزاوية في التنمية
أولت رواندا اهتماماً خاصاً للتعليم والصحة باعتبارهما الأساس لبناء مستقبل مستدام. زادت معدلات التعليم من خلال برامج تعليمية مجانية وإلزامية في المرحلة الأساسية، بالإضافة إلى تحسين جودة الخدمات الصحية التي أدت إلى تراجع كبير في معدلات وفيات الأطفال والأمهات، ورفع متوسط العمر المتوقع للسكان. كما أولت الأطفال والأمهات والأسرة اهتماماً مضاعفاً، وفي حديث لوزيرة الأسرة الرواندية كونسولي أويمانا في شهر أغسطس/آب من العام الفائت، قالت: «لدينا مقولة شائعة هي «أوموانا ني أموتواري» التي تعني «الطفل هو الزعيم»، وهو ما يعكس مكانة الطفل الرواندي في المجتمع. وأشادت بالتجربة الرواندية في إنشاء مراكز التنمية للطفولة المبكرة، التي أدت إلى زيادة وصول الأطفال إلى التعليم قبل المدرسي بنسبة 78%.
اقرأ أيضاً: قرار رئاسي بتشكيل لجنة للحفاظ على السلم الأهلي في الساحل السوري
إضافة إلى ذلك، ركزت رواندا على استخدام التكنولوجيا الرقمية بشكل كبير، مستهدفةً التحول إلى مركز تكنولوجي في أفريقيا وفق ما تتحدث دراسة نشرها مركز حرمون للدراسات. فقد استثمرت رواندا في البنية التحتية الرقمية، وقدمت خدمات حكومية إلكترونية واسعة النطاق، وسعت إلى خلق بيئة تكنولوجية جاذبة، ما ساعد على تعزيز الابتكار وخلق فرص عمل جديدة.
تجربة ملهمة عالمياً.. وتحديات!
تحوّلت تجربة رواندا إلى نموذج ملهم للدول التي تعاني من الصراعات والحروب، مؤكدة أن الإرادة السياسية والتخطيط الاستراتيجي يمكنهما تحقيق التحول السريع من دولة تعاني من الدمار إلى نموذج تنموي ناجح. وهذه التجربة لا تزال محل دراسة وإعجاب عالمي، ويتم تدريسها في العديد من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية العالمية.
وعلى الرغم من النجاحات الباهرة، إلا أن رواندا لا تزال تواجه بعض التحديات مثل الحفاظ على الاستقرار السياسي على المدى الطويل، وإدارة النمو السكاني المتسارع، واستدامة النمو الاقتصادي في ظل تقلبات الاقتصاد العالمي.
لكن ختاماً، تبقى تجربة رواندا نموذجاً بارزاً يثبت أنه بالإمكان دائماً صناعة الأمل من رحم المعاناة، وتقديم درس حي في قدرة الدول على النهوض مهما كانت الظروف قاسية، على أمل أن تكون سورية بما لها من مكانة هامة وخصوصية جيوسياسية عالية، وبعد كم الدمار الهائل التي تعرضت له؛ نموذجاً يحتذى به في التحول من الخراب إلى الازدهار في قادم الأيام.