لم تُبقِ الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد في سوريا حجراً على حجر في بنية الرعاية الصحية، سواء بالمعنى الحرفي أو بالمعنى المجازيّ للكلمة، فمنذ اندلاع الحراك الثوري السوري في 2011، وما تبعه من قمع دموي من النظام السابق، واشتباكات عنيفة بين الأطراف المختلفة، غدت المستشفيات أهدافاً عسكرية، وأصبح العلاج رفاهية يصعب الحصول عليها في مناطق كثيرة، وفي هذا التقرير، نستعرض وضع القطاع الصحي في سوريا قبل الحرب، وكيف أنهكته سنوات الصراع حتى كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة.
مشهد المستشفيات قبل الحرب
قبل الحرب، وتحديداً بين عامي 2000 و2010 كان نظام الرعاية الصحية في سوريا من بين أكثر الأنظمة اكتفاءً ذاتياً في المنطقة، إذ حاولت الحكومة حينها إدخال إصلاحات على النظام الصحي ضمن إطار التوجه نحو اقتصاد متحرر.
تضاعف عدد المستشفيات الخاصة، وقدّمت المستشفيات العامة خدماتها مجاناً، باستثناء بعض المستشفيات المستقلة التي فرضت رسوماً رمزية.
وإلى جانب وزارة الصحة، أسهمت وزارات التعليم العالي والدفاع والداخلية في تشغيل مرافق طبية خاصة بها، وقدمت خدماتها لفئات محددة كالعسكريين والطلاب.
وبحلول عام 2010، كانت وزارة الصحة تشغّل 90 مستشفى حكومياً يضم ما يقارب 13907 أسرّة، أي ما يعادل نصف الطاقة الاستيعابية للمستشفيات في سوريا، أما القطاع الخاص، فكان يشغّل 376 مستشفى تحتوي على 8962 سريراً، أي حوالي 32% من إجمالي القدرة الاستيعابية.
اقرأ أيضاً: خطة أممية لإعادة إعمار سوريا.. ما هي وماذا تتضمن؟
القطاع الصحي في سوريا بعد الحرب
وما إن انطلقت شرارة النزاع، دخل القطاع الصحي في سوريا في مسار انحداري حاد، فمن 2011 حتى 2015، شهدت البلاد استهدافاً ممنهجاً للمرافق الطبية والعاملين فيها، ما أدى إلى تدمير شبه كامل للبنية الصحية في عدد كبير من المناطق.
وقد تحوّلت الهجمات الجوية على المرافق الطبية في ذلك الوقت إلى جزء من المشهد اليومي، ووثّقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان أكثر من 601 هجوم جوي استهدف 222 منشأة صحية خلال الفترة من 2011 إلى 2022، وأسفرت هذه الهجمات عن مقتل ما يزيد عن 900 من العاملين في القطاع الصحي.
ومع تدمير المنشآت الطبية أو الإغلاق القسري لها، واجه المرضى صعوبات بالغة في الحصول على العلاج، وامتنع مئات الآلاف عن زيارة المستشفيات خوفاً من الاستهداف أو بسبب غياب الخدمات، ما فاقم من تدهور الحالة الصحية العامة للسكان.
وقد فاقم النزوح الواسع للأطباء والكوادر الطبية من هذه الأزمة، وترك فراغاً حاولت منظمات المجتمع المدني والهيئات الإنسانية الدولية احتواءه بصعوبة في المناطق المنكوبة.
وبين عامي 2015 و2023، وبعد أن خفّت حدّة الصراع، تشكّلت سلطات موازية وكيانات محلية تدير مناطق مختلفة، فأصبح المشهد الصحي مفككاً، بلا تنسيق ولا معايير موحدة، تدار فيه المستشفيات إما بجهود مجتمعية أو بدعم منظمات إغاثية، مع غياب شبه تام لدور الدولة في المناطق الخارجة عن سيطرتها.
اقرأ أيضاً: الأمن الغذائي في سوريا.. هل الزراعة في مهب الريح؟!
عقوبات اقتصادية لا تعرف الرحمة
ولم تكن الحرب على الأرض وحدها ما فاقم من انهيار المشهد الصحي في سوريا، فقد ساهمت العقوبات الاقتصادية الغربية في تعقيده.
الاتحاد الأوروبي، الذي مدّد مؤخراً عقوباته على سوريا حتى منتصف العام الماضي 2024، اعترف بأن إجراءاته كان لها تأثيرات غير مقصودة على عمليات الإغاثة والخدمات الطبية، رغم أنها لا تشمل المساعدات الطبية والأدوية بشكل رسمي.
أما العقوبات الأمريكية، فقد شملت قيوداً صارمة على التجارة والتعاملات المالية، ما جعل تأمين المواد الطبية الحيوية أمراً صعباً.
وأدى هذا الحصار إلى تفاقم أزمة الأدوية في البلاد، رغم أن سوريا تنتج ما بين 70% و90% من أدويتها محلياً، إلا أن هذه الصناعة تعاني من نقص حاد في المواد الخام، ما جعل بعض الأدوية الأساسية، بما فيها أدوية السرطان التي يحتاجها كثر، نادرة أو غير متوفرة، وترك المرضى أمام واقع قاسٍ، فالبعض يعيش، والبعض الآخر لا ينجو، والحظ هو المتحكم.
نزيف الكوادر الطبية
ذكرنا آنفاً أن الحرب والهجمات الشعواء على القطاع الصحي أدّت إلى نزوح عدد كبير من الأطباء، وقد كان هذا الأمر أحد أبرز مظاهر الانهيار في القطاع الصحي.
وعلى الرغم من عدم توافر أرقام دقيقة عن أعدادهم، فإن المؤشرات المتاحة ترسم الصورة: آلاف الأطباء السوريين غادروا البلاد، ودخلوا في طابور انتظار طويل لاعتماد مهني في دول اللجوء، أو عملوا في مهن بعيدة عن اختصاصهم، أو اختبأوا في الظل دون الكشف عن مصيرهم.
وقد جاءت محاولات تقدير عدد الأطباء المتبقين داخل سوريا من خلال بيانات نظام HeRAMS التابع للأمم المتحدة، والذي بدأ في جمع معلومات من داخل سوريا اعتباراً من عام 2018.
وفي عام 2020، بلغ عدد الأطباء بمختلف تخصصاتهم 15,868 طبيباً فقط، أي نحو نصف عدد الأطباء الذين كانوا يعملون في سوريا عام 2010.
وما يثير الانتباه أن أكثر من نصف هؤلاء الأطباء كانوا أطباء مقيمين، أي لا زالوا في مرحلة التدريب، ما يشير إلى محاولة الحكومة السابقة تسريع إنتاج الكوادر لتعويض النقص الحاد في الأطباء المتخصصين.
ووفقاً لبيانات أخرى، يُقدّر عدد الأطباء السوريين في ألمانيا وحدها، والعاملين في المستشفيات فقط بنحو 5000 طبيب، وتشير تصريحات وزير الصحة الألماني كارل لاوترباخ إلى أن عددهم قد يتجاوز 6000 طبيب، مؤكداً أنهم أصبحوا “لا غنى عنهم” ضمن النظام الصحي الألماني.
ومع ذلك، تبقى البيانات مليئة بالثغرات، ولا تقدم صورة شاملة عن حجم نزيف الكوادر الطبية.
اقرأ أيضاً: من ألمانيا إلى سوريا: «حملة شفاء» بقعة ضوء وسط الظلام
أزمة صحية وإنسانية خانقة
مع غياب الرعاية الصحية، وتدمير المستشفيات، ونزوح الأطباء، وشحّ الأدوات والمستلزمات في المستشفيات القائمة، تشكّلت أزمة صحية خانقة، وفي عام 2024، كشفت تقارير أن أكثر من 16.7 مليون شخص في سوريا باتوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية.
ويشير هذا الرقم المرعب إلى عمق الكارثة التي خلّفها الصراع على القطاع الصحي والسكان، والحاجة باتت ملحّة لدراسة الآثار بعيدة المدى للحرب على القطاع الطبي، مثل الأثر الاقتصادي، تدهور صحة السكان، وفقدان الثقة بالنظام الصحي، إضافة إلى الضغوط الهائلة التي يواجهها من تبقّى من الكوادر الطبية.
مستشفى الزهراوي في دمشق بلا عجلات!
وعلى سبيل المثال لا الحصر، على مشكلة شحّ الأدوات والمستلزمات، يعاني اليوم مستشفى الزهراوي للتوليد في دمشق، التابع لوزارة الصحة السورية، من نقص حاد في سيارات الإسعاف، إذ لا يمتلك سوى سيارتين، إحداهما معطلة وتحتاج لصيانة عاجلة، بينما الثانية لا تعمل إلا بالدفع اليدوي بسبب عطل في المحرك!.
فمنذ عام 2011 لم تخضع سيارات الإسعاف في المستشفى لأي صيانة دورية، وفقاً لما صرّح به رئيس المرآب، أحمد العمر، لـ”عنب بلدي”، وأشار أيضاً إلى نقص في عدد السائقين، وعدم تجاوب مديرية الصحة مع شكاوى المستشفى المتكررة.
كشف العمر كذلك أن سيارة تعطلت بشكل نهائي العام الماضي، وأن المحرّك الحالي للسيارة الوحيدة المتبقية قد يتوقف في أي لحظة. وأضاف أن “فاناً” مخصصاً لنقل المواد الطبية سُرق يوم سقوط النظام في 8 كانون الأول 2024، ما زاد الطين بلّة، ورغم محاولة تدارك الأمر ورفع كتابين رسميين لمديرية الصحة، فإنّ إدارة المستشفى لم تتلقَ أي رد حتى الآن.
وبسبب هذا العجز يضطر المستشفى إلى الاستعانة بمرآب وزارة الصحة لنقل المواد الطبية، أو الاعتماد على سيارات الإسعاف السريع والهلال الأحمر في الحالات الطارئة.
مشافي دمشق تحت الضغط
وعموماً، تشهد مستشفيات العاصمة دمشق أزمة حادة في المستلزمات الإسعافية الأساسية، ما يضطر الأهالي لتأمين بعض المواد على نفقتهم الخاصة، وقد تسبب هذا النقص في توترات متكررة بين المرضى والأطباء، وسط ضغط كبير نتيجة تزايد أعداد المراجعين.
فالكادر الطبي في أقسام الإسعاف بات مضطراً للمفاضلة بين المرضى، وتقديم العلاج للحالات الأخطر قبل غيرها، وتتفاقم الأزمة مع غياب الدعم الرسمي في الفترة الأخيرة، وتوقف العديد من الأجهزة الطبية عن العمل، فضلاً عن النقص الحاد في الأدوية.
اقرأ أيضاً: رفع حالة الطوارئ.. تقنين مائي حاد في دمشق خلال الصيف
الحمل والولادة في مخيمات الشمال.. معاناة مضاعفة
وبالانتقال إلى مخيمات الشمال السوري، نرى الصورة أسوأ بكثير، فالظروف الصحية والمعيشية صعبة، خاصة على النساء الحوامل والأطفال، إذ تواجه النسوة هناك أزمة كبيرة بسبب النقص في الخدمات الطبية وسوء التغذية، في ظل الازدحام السكاني والتراجع الكبير في عدد المختصين.
ودفعت هذه الأوضاع العديد من الأمهات إلى تأجيل زيارات الرعاية الأساسية، وتخلّين عن تناول الأدوية اللازمة، ما أدى إلى ارتفاع حالات سوء التغذية بينهن وبين الأطفال، كما فقدت الكثيرات منهن القدرة على إرضاع أطفالهن طبيعياً، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع أسعار الحليب الصناعي.
وبحسب منظمة اليونيسيف، تراوحت معدلات سوء التغذية لدى الأمهات بين 11% في شمال غرب سوريا وأجزاء من دمشق، إلى 25% في شمال شرق سوريا، كما أكدت المنظمة أن حوالي نصف السكان يعتمدون على مصادر مياه غير آمنة، بينما 70% من مياه الصرف الصحي غير المعالجة.
القطاع الصحي اليوم.. واقع هشّ واختبار صعب
مع سقوط نظام الأسد في أواخر العام الماضي، وتسلّم حكومة جديدة في سوريا، ينتظر البلاد تحديات هائلة في إعادة بناء نظام رعاية صحية موحد وقادر على الصمود، بعد سنوات من الحرب والدمار الذي ألحقه الصراع بالبنية التحتية الصحية.
فوزارة الصحة في دمشق، التي كانت القوة المهيمنة تاريخياً في إدارة قطاع الصحة، تعمل الآن في واقع سياسي هشّ أكثر من السابق، ما يشكّل تهديداً مباشراً للرعاية الصحية الأولية، العلاج المتخصص، وسلاسل الإمداد الطبي.
حالياً، لا يعمل سوى 50% من مستشفيات البلاد بكامل طاقتها، في حين تعمل 26% جزئياً، وتبقى 24% من المستشفيات خارج الخدمة تماماً، وتتركز المستشفيات العاملة في المدن الكبرى مثل دمشق وحماة وحلب وطرطوس واللاذقية.
ومن المخاوف الكبيرة التي تواجه القطاع الصحي في سوريا اليوم، تزايد حالات العدوى المقاومة للمضادات الحيوية، وهي مشكلة تفاقمت بسبب تعطل خدمات الرعاية الصحية، ضعف جهود مكافحة العدوى، ونزوح السكان.
وعلى قدر المستطاع، تبذل الحكومة السورية بالتعاون مع المنظمات الدولية جهوداً حثيثة لإعادة تأهيل القطاع الصحي المدمّر، إلا أن حجم الأزمة يتطلب تحركاً عاجلاً ودعماً عالمياً، مع حاجة ملحّة لرفع العقوبات.
على سبيل المثال، وضعت منظمة الصحة العالمية منذ كانون الأول 2024، خطة شاملة مدتها ستة أشهر لمعالجة أزمة الرعاية الصحية في سوريا، مع التركيز على عدة مجالات رئيسية، وتعزيز رعاية الإصابات على رأس القائمة، وتشمل الخطط كذلك توفير إمدادات الطوارئ، نشر سيارات الإسعاف، وضمان استمرار عمل المستشفيات التي لا تزال قائمة.
كما تعدّ استعادة الخدمات الصحية الأساسية أمراً لا غنى عنه، بما في ذلك معالجة احتياجات صحة الأم والطفل، استئناف برامج التحصين، ونشر العيادات المتنقلة للوصول إلى السكان المحرومين، في الوقت نفسه، تعمل المنظمة على تعزيز أنظمة الإنذار المبكر ونشر فرق الاستجابة السريعة لمواجهة تفشي الأمراض.
إلى جانب ذلك، تشكّل الصحة النفسية والأمراض المزمنة أولوية من أولويات الدعم الصحي، إذ تدمج فرق منظمة الصحة العالمية الدعم النفسي في المرافق الصحية، وتعمل على علاج الحالات المزمنة مثل الفشل الكلوي.
هل نحتاج إلى معجزة؟
ورغم هذه الجهود، يبقى طريق التعافي طويلاً فقد خلّفت سنوات الحرب إرثاً من البنية التحتية المتهالكة، نقصاً حاداً في الإمدادات الطبية، وغياب الكوادر الطبية الكافية، وهذه المشاكل تترافق مع التحديات الأمنية ومحدودية التمويل التي تعيق التقدم نحو استعادة النظام الصحي في سوريا بشكل كامل.
ختاماً، يقف القطاع الصحي في سوريا اليوم على شفا الانهيار الكامل، بعد أن تركت الحرب جرحاً عميقاً فيه لا يزال ينزف، ومع ذلك، وسط أطلال الدمار، يبقى بصيص أمل في إمكانية إعادة بناء هذا النظام المتهالك، فاستعادة الصحة لا تعني فقط بناء مستشفيات جديدة، بل تعني أيضاً إعادة الأمل إلى حياة إنسان فقد كل شيء، فهل يستعيد السوريون يوماً حقهم في حياة صحية وآمنة، أم أن ذلك يحتاج إلى معجزة؟
اقرأ أيضاً: هل ستعود المليارات السورية الهاربة من المنفى؟!