لم يكن في سوريا مجلس أمن قومي بمفهومه الحديث قبل الخطوة الأخيرة التي اتخذها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. فعلى مدى عقود حكم حزب البعث، أُديرت الملفات الأمنية عبر شبكة من أجهزة المخابرات القوية التي ارتبطت مباشرةً برأس السلطة، إلى جانب أطر عليا داخل الحزب والدولة تولّت التنسيق فيما بينها.
كان مكتب الأمن القومي (والذي عُرف لاحقاً باسم مكتب الأمن الوطني) الهيئة المركزية التي تشرف على عمل الاستخبارات السورية وتقدّم المشورة للرئيس رغم أن كلاً من أجهزة المخابرات عملت باستقلالية واسعة ورفعت تقاريرها مباشرة إلى الرئيس السابق في كثير من الأحيان. أي أن صناعة القرار الأمني كانت محصورة ضمن حلقة ضيقة من كبار المسؤولين الأمنيين دون وجود مجلس شامل يُشرك عدة وزراء وجهات مدنية كما هو الحال الآن.
دوافع المجلس
يأتي تشكيل مجلس الأمن القومي السوري في سياق مرحلة انتقالية بالغة الحساسية تمر بها البلاد، مما يجعل لهذه الخطوة أبعاداً سياسية وأمنية متعددة. وتؤكد الرئاسة السورية في بيانها الرسمي أن المجلس يهدف إلى «تعزيز الأمن القومي والاستجابة للتحديات الأمنية والسياسية التي تواجه البلاد».
ويرى البعض أن من إيجابيات إنشاء المجلس أنه يوسّع دائرة صنع القرار الأمني عوضاً عن حصرها في شخص واحد أو جهاز واحد. فعضوية المجلس تضم وزراء الخارجية والدفاع والداخلية ومدير الاستخبارات العامة، ما يعني إشراك المؤسسات الحكومية الرئيسية ذات الصلة بالأمن إلى جانب المستشارين. وبحسب قرار تشكيل المجلس، تُتخذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي «بالتشاور بين الأعضاء» خلال اجتماعات دورية أو طارئة بدعوة من.
يحمل المجلس الجديد وعداً بتعزيز الرقابة المتبادلة والتوازن داخل هيكل الحكم. فاجتماع وزراء مدنيين مع قادة الأمن تحت مظلة واحدة قد يضفي قدراً من الرقابة المدنية على الأداء الأمني. هذا تطور مهم إذا ما قورن بالحقبة السابقة التي سيطر فيها العسكريون ورجال المخابرات على المشهد دون محاسبة تذكر. كما أن وجود مقعدين استشاريين وآخر تقني يُعين أصحابها بناء على الكفاءة يفتح الباب أمام خبرات متخصصة (قانونية أو اقتصادية أو تكنولوجية) للمشاركة في رسم السياسات الأمنية.
مثل هذا الانفتاح على الكفاءات كان غائباً في النظام الأمني القديم، وقد يسهم الآن في تقديم مقاربات أشمل لمعالجة الملفات الحساسة (كملف إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، أو ضبط أداء القوى العسكرية الميدانية، أو مكافحة الإرهاب بصورة تحترم القانون وحقوق الإنسان).
مخاوف محتملة
رغم المزايا المتوقعة، يثير تشكيل مجلس الأمن القومي جملة من التخوفات والتحفظات لدى بعض المراقبين. أولى هذه التخوفات تتعلق بتركيبة المجلس وصلاحياته الفعلية. فعلى الرغم من الطابع المؤسسي الجامع له، يبقى رئيس الجمهورية هو من يترأس المجلس ويسيطر على دفة توجيهه. وينص قرار التشكيل صراحة على أن مهام المجلس وآليات عمله «تحدد بتوجيهات من رئيس الجمهورية». هذا البند يوحي بأن الرئيس يظل المقرر الأخير، إذ يرسم الخطوط العريضة لعمل المجلس بما يضمن تحقيق المصلحة الوطنية من وجهة نظره.
وعليه، يخشى البعض أن يغدو المجلس مجرد واجهة تشاركية ظاهرية، في حين تُحكم السلطة التنفيذية قبضتها فعلياً على القرارات عبر توجيهات الرئيس وإدارته للاجتماعات.
وعلى الصعيد القانوني، أشار خبراء دستوريون إلى ضرورة تحديد إطار شرعي واضح لعمل مجلس الأمن القومي. الخبير القانوني السوري معتصم الكيلاني أوضح في حديث صحفي أن على المجلس الالتزام بـ الإعلان الدستوري المؤقت الذي يفترض أنه صدر لتنظيم المرحلة الانتقالية. وشرح الكيلاني أن هذا الإعلان هو وثيقة مؤقتة تُحدّد صلاحيات المؤسسات الانتقالية، وبالتالي فإن مجلس الأمن القومي يجب أن يعمل بموجبها لا بمعزل عنها. ويُفهم من ذلك أنه يتعين تعريف علاقة المجلس بالسلطة التنفيذية (رئاسة الحكومة) والتشريعية (إن وجدت أو عند تشكيلها لاحقاً) كي لا يتحول المجلس إلى كيان فوق الدستور.
نماذج من مجالس الأمن القومي حول العالم
تُعد مجالس الأمن القومي ممارسة شائعة في العديد من دول العالم لضمان تنسيق السياسات الأمنية والعسكرية والخارجية على أعلى مستوى رسمي. تختلف تسميات وصلاحيات هذه المجالس من دولة لأخرى، لكنها تشترك في كونها أطراً تجمع صناع القرار الأمني والسياسي لوضع استراتيجيات موحدة لمواجهة التهديدات. فيما يلي نظرة على بعض أبرز الدول التي لديها مجالس أمن قومي واختصاصات هذه المجالس:
الولايات المتحدة الأمريكية: تمتلك مجلس الأمن القومي (NSC) الذي تأسس عام 1947 ويتبع مباشرة للرئيس. يُعنى هذا المجلس بقضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية، ويضم في عضويته الرئيسية الرئيس ونائبه ووزراء الخارجية والدفاع وغيرهم، وهو جزء من المكتب التنفيذي للبيت الأبيض يهدف مجلس الأمن القومي الأمريكي إلى تقديم المشورة للرئيس وتنسيق سياسات الدفاع والخارجية والاستخبارات فيما يخص أمن الولايات المتحدة وقد توسّع دوره عبر العقود ليصبح منصة صنع قرار محورية في الأزمات الدولية التي تواجه واشنطن.
روسيا: يشكّل مجلس الأمن التابع للكرملين أحد أهم هيئات صنع القرار في موسكو. يتألف مجلس الأمن الروسي من أبرز الوزراء ورؤساء الأجهزة الأمنية ويترأسه رئيس الدولة نفسه. تأسس هذا المجلس ليكون منتدى لتنسيق وتكامل سياسات الأمن القومي الروسي، بحيث يجمع بين الجوانب العسكرية والخارجية والداخلية ضمن رؤية واحدة. يتمتع المجلس الروسي بصلاحيات استشارية واسعة، ويعتبره البعض امتداداً معاصراً لمجلس الأمن السوفييتي السابق.
تركيا: لدى أنقرة مجلس أمن قومي (MGK) يقوم بدور حلقة الوصل بين القيادتين المدنية والعسكرية. يُعتبر هذا المجلس أعلى هيئة تنسيق أمني في تركيا ويضم قادة القوات المسلحة إلى جانب مسؤولين مدنيين رفيعين. ينعقد اجتماع المجلس التركي كل شهرين تقريباً برئاسة رئيس الجمهورية، ويبحث المسائل المتعلقة بالأمن الداخلي والخارجي للدولة. تاريخياً، لعب المجلس دوراً مؤثراً في الحياة السياسية التركية – إذ كان أداة لإسماع صوت العسكر في القرارات المصيرية – لكنه شهد تعديلات لتعزيز الطابع المدني بعد عام 2000.
توضح الأمثلة أعلاه أن فكرة مجلس الأمن القومي تتمحور حول إنشاء منصة رسمية عليا تُنسق سياسات الدولة في مجالات الأمن والدفاع والخارجية. وفي الحالة السورية الراهنة، يبدو أن تشكيل مجلس أمن قومي ينسجم مع الاتجاه العالمي نحو إضفاء طابع مؤسسي على عملية صنع القرار الأمني، خاصة في المراحل الانتقالية الحساسة.