الأربعاء 2 شباط/فبراير 2022
قد تكون واحدة من الأساطير الداخليّة المؤسسة لتنظيم داعش هي نجاح خطّة “هدم الأسوار” التي أفضت إلى اقتحام سجني أبو غريب والتاجي ببغداد وفرار نحو ألف سجين منهما في تموز/يوليو 2013، ذلك أن “الغزوة” التي أعلن عنها أبو بكر البغدادي وقتذاك أسّست لفكرة مفادها أنّ التنظيم لا يتخلّى عن مقاتليه، فضلاً عمّا تمثّله مثل هكذا عمليات من بعد دعائي كبير يدمغ وجدان مقاتلي التنظيم خارج وداخل أسوار السجون، وكذلك وجدان “مريدي” التنظيم الذين لا يقلّون حماسة وحميّة.
شيء مطابق لتلك الخطّة نفّذ في أفغانستان أيضاً، على يد تنظيم “ولاية خراسان” (فرع داعش الأفغانيّ)؛ ففي آب/أغسطس 2020 نجح التنظيم في الهجوم على السجن المركزيّ بجلال آباد قام بتخليص قرابة 300 سجين ينتمي معظمهم للتنظيم، الأمر الذي وضع التنظيم في قلب المشهد الأفغاني ووسع من هامش التنافس بينه وحركة طالبان القويّة، وهو ما عنى نصراً دعائياً كبيراً لداعش المنسوجة أصلاً من العنف والقسوة والدعم الاستخباراتي والكثير من الدعاية.
كانت معظم قيادات داعش قد تناوبت على السجون العراقية، والسجن في حالة داعش هو مركز للإعداد النظريّ للمتطرّفين والمختبر الذي تخمّرت بداخله الأفكار وتلاقحت الرؤى الأشد ظلامية وتطرّفاً، فسجن “بوكا” الذي أوى أخطر إرهابيي العالم، أبو بكر البغدادي، كان مساحة مكتظة بالجهاديين والقاعديين ورجال نظام صدام حسين ومخابراته وعسكرييه، وهو واحدٌ من الأماكن الرطبة التي نما بداخلها خطاب المظلومية.
لقد مثّلت عملية داعش على سجن الصناعة/ غويران بالحسكة امتداداً للعمليات التي شنّها التنظيم على السجون المُحكمة في العراق وأفغانستان، ولا يمكن بحال من الأحوال وضع ما أقدم عليه التنظيم في خانة المغامرة أو اعتباره مجرّد محاولة أو تعبيراً عن يأس يستبدّ بقياداته، بل إن العملية مثّلت أوسع مواجهة خاضها التنظيم منذ هزيمته الأخيرة في الباغوز آذار/مارس 2019 وأراد من خلالها تخليص الآلاف من سجنائه في سجون الحسكة واستثمار فرارهم في إرباك القوى الأمنية وبالتالي إشعال المدينة وريفها ضمن حربٍ تفتّ من عضد قوات سوريا الديمقراطية، إذ لا يعقل أن يفرّط التنظيم بنحو مئتي مقاتل دفعة واحدة وهو يتبع سياسة الاقتصاد في المواجهات مذ نضبت موارده البشريّة إلّا إذا كانت الغاية من العملية تستحق هذه “التضحية” الكبيرة.
كانت الاستعصاءات التي حصلت في سجون الإدارة الذاتية في فترات سابقة تعبيراً عن ضجر السجناء أو ردّات فعل عنيفة وشرسة من سجناء شديدي الخطورة، أو كانت بغرض إرباك الحرس والإدارة الذاتية، لكن الإرباك لم يدفع السكان للتوجّس من احتمالات انفلات الأوضاع في مدينتهم لولا طبيعة العملية الأخيرة ودخول عناصر داعش بأعداد غفيرة والاستحكام بالمناطق السكنية واتخاذ المدنيين دروعاً بشريّة واستخدام العربات المفخّخة.
دفعت عملية داعش باتجاه تصاعد المطالبات الداعية إلى إبعاد السجناء من المدينة إلى حيث يتوجب إقامة سجون جديدة تستوعب هذه الأعداد المهولة. وهذا يدفع باتجاه تحمّل التحالف الدولي مسؤولياته على عدّة مستويات، كإعادة النظر في البنية التحتية للسجون ووجوب إقامة سجون قصيّة بعيداً عن المدن خاضعة لنظم مراقبة متطوّرة، وما يستلزمه ذلك من تقسيم للسجناء إلى فئات تبعاً لخطورتهم وأدوارهم السابقة داخل التنظيم، إذ يحول التقسيم دون تبادل الخبرات أو تشكّل هرمية تنظيمية وفرض قواعد “السمع والطاعة” داخل أسوار السجون وهو ما يعطي للسجون طابع الإمارات النائمة للتنظيم، قياساً إلى توصيف عناصر التنظيم النشطين دائماً بأنهم “خلايا نائمة”.
وآن أيضاً للتحالف الدولي مخاطبة الدول بجدّية لاستعادة رعاياها القابعين في سجون شمال شرقي سوريا، إذ لا يمكن للدول أن تتخلّى عن مسؤولياتها وأن تعتبر الأرض السوريّة جزيرة عقاب أبديّ، وإذا كانت المطالبات الشعبيّة غائبة في معظم الدول التي وفد منها عناصر التنظيم فإن ذلك لن يعفي الحكومات من مسؤوليتها.
وأما مسألة إرجاء محاكمة السجناء تبعاً للوضع القانوني الملتبس، فإنه يفضي إلى مراكمة المخاوف المتصلة ببقاء السجناء في الانتظار مدّة أطول، واستدامة عملية الحراسة والمراقبة المرهقة، وهو يعني أن الأرقام في السجون ستبقى في حالة تزايد مستمر، وأن عمليات الاستعصاء أو عمليات الهجوم على السجون ستبقى ضمن دائرة الاحتمالات.
ومع إلحاق قوات سوريا الديمقراطية الهزيمة بالتنظيم وتحييد العشرات من المهاجمين وإعادة معظم الفارّين إلى سجونهم يزداد التوقّع بأن يستمر دعم التحالف الدولي للقوات المحلّية تبعاً لتصريحي خارجيتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، غير أن ما سبّب الخذلان للمجتمع المحلّي كان صمت التحالف عن الأعمال العدائية التركية في جنوب الحسكة، في ريف تل تمر، والذي وضع قسد بين مواجهتين في وقت واحد، فيما كان بإمكان التحالف أن يدعو إلى وقف الهجمات التركية مؤقّتاً، على أقل تقدير، إلى حين استعادة الاستقرار الأمني في الحسكة.
يبقى تعبير “القنبلة الموقوتة” في معرض وصف السجون المكتظّة بمقاتلي داعش بالغ الدقّة على النحو الذي انفجرت فيه الأوضاع في الحسكة، وسيبقى هذا التعبير قابلاً للاستخدام وإعادة التدوير ما لم يجد المجتمع الدولي حلّاً واضحاً لأخطر إرهابيي العالم المسجونين في شمال شرقي سوريا، وإذا كانت لامبالاة المجتمع الدولي بادية في هذه الأثناء، فإن داعش تضع نصب أعينها احتمالات حدوث فوضى جديدة تؤدّي إلى انبعاث جديد للتنظيم، وبالتأكيد ستبقى السجون هدف التنظيم الأمثل على اعتبارها إمارات التنظيم النائمة، خاصّة وأن فشله في الحسكة أضاف لجروح التنظيم القديمة جرحاً نرجسيّاً جديداً.
المصدر: نورث برس
- شورش درويش كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.