تعتبر صناعة السيراميك في سوريا واحدة من أهم الركائز الصناعية التي ساهمت لسنوات في دعم قطاع البناء والإعمار، بفضل منتجاتها المتنوعة التي تجمع بين الجودة والأناقة، والتي ربطت اسم سوريا بإنتاج سيراميك وأدوات صحية ذات قدرة تنافسية، مدعومة بتوافر العديد من المواد الأولية المحلية.
لكن هذه الصناعة واجهت تحولات جذرية خلال السنوات الماضية، حيث شهدت تراجعاً ملحوظاً بسبب تحديات متشابكة، بدءاً من الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية للمصانع خلال السنوات الأخيرة، مروراً بفتح باب الاستيراد للمنتجات الأجنبية بأسعار منخفضة، وصولاً إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي.
ورغم ذلك، لا تزال صناعة السيراميك السورية تحتفظ بإمكانيات كبيرة يمكن أن تعيد لها بريقها إذا ما توفرت الظروف الداعمة.
المنافسة الخارجية: ضربة موجعة للصناعة المحلية
قبل سقوط النظام البائد، بدأت تظهر معوقات جدية تمثلت في تدمير البنى التحتية الصناعية، وفتح الباب أمام استيراد منتجات مماثلة، مما خلق بيئة تنافسية غير متكافئة أثرت سلباً على المنتج المحلي.
وكانت السياسات المتعلقة بالاستيراد في تلك الفترة، وخصوصاً تدفق المنتجات الإيرانية بكميات كبيرة وبأسعار مخفضة، ذات تأثير كبير على واقع صناعة السيراميك في سوريا.
حيث وجد المصنعون المحليون أنفسهم أمام تحديات متزايدة للحفاظ على مواقعهم في السوق، بسبب المنافسة غير العادلة التي كانت مدعومة في بعض الأحيان من دول المنشأ، الأمر الذي أدى إلى تراجع القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية، ودفع العديد من المنشآت إلى تقليص حجم إنتاجها، بل وإغلاق بعضها بالكامل.
أما قرار السماح باستيراد السيراميك، الذي أقر بناءً على توصية صادرة عن غرفة تجارة ريف دمشق في زمن النظام البائد قبل حوالي سنتين، وشمل خفض السعر الاسترشادي وفرض ضميمة على القياسات المصنعة محلياً.
وقد أدى هذا القرار إلى حدوث انقسام واضح داخل الأوساط الاقتصادية؛ حيث اعتبره التجار وسيلة لتوفير منتجات متنوعة بأسعار أكثر انخفاضاً للمستهلك، وتعزيز التنافسية وتنظيم عمليات دخول البضائع للبلاد بطريقة قانونية، بديلاً عن التهريب.
على الجانب الآخر، رأى الصناعيون في هذا القرار تهديداً خطيراً لصناعتهم الوطنية، تم اتخاذه دون إجراء مشاورات كافية، مما أثر سلباً على مخزوناتهم الكبيرة، وأدى إلى توقف بعض خطوط الإنتاج وإلغاء عدد من الطلبيات المعلقة.
اقرأ أيضاً: كيف ينوي وزير الاقتصاد الجديد «اختراع سوريا»؟
تدمير للبنية التحتية وارتفاع التكاليف
لم تقتصر التحديات التي واجهتها صناعة السيراميك في سوريا على المنافسة الخارجية وسياسات الاستيراد فحسب، بل شملت أيضاً عقبات هيكلية وتشغيلية ذات تأثير بالغ.
فقد شكلت الزيادة في تكاليف الطاقة، بما في ذلك المحروقات والكهرباء، عبئاً كبيراً على المصنعين، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة المنتجات النهائية وتقليل قدرتها التنافسية من حيث السعر، إلى جانب ذلك، عانى هذا القطاع من نقص حاد في السيولة المالية اللازمة لتغطية النفقات التشغيلية وتمويل شراء المواد الأولية.
كما ظلت الحاجة إلى اعتماد الغاز الطبيعي كبديل للطاقة التقليدية مطلباً أساسياً، بالنظر إلى دوره المحتمل في تقليل التكاليف بشكل كبير وتحسين جودة المنتجات، وهو ما يمثل استثماراً ضرورياً لضمان استدامة هذه الصناعة الحيوية.
فاليوم، تقدر تكلفة إنشاء مصنع واحد للسيراميك بنحو 20 مليون دولار، الأمر الذي يبرز ضخامة التحديات الاستثمارية والتشغيلية التي يواجهها هذا القطاع، كما يعكس توقف العديد من المصانع الجاهزة للعمل أو التي تعرضت لأضرار جزئية مدى التعقيد الذي يطبع المشهد الصناعي الحالي.
هل من مخرج للأزمة؟
رغم هذا التحديات، فإن صناعة السيراميك في سوريا تمتلك مقومات النجاح إذا ما أعيد تقييم سياسات الدعم، فالمواد الأولية الأساسية متوفرة محلياً بنسبة كبيرة، مما يقلل من الحاجة إلى الاستيراد، كما أن الخبرات الفنية السورية تمتلك سمعةً طيبة في المنطقة.
كما أثبتت شركات مثل “الخزف السورية” و”بركات للموزاييك” قدرتها على إنتاج تشكيلات مبتكرة تنافس دولياً، خاصة في تصميم واجهات المباني والأماكن غير التقليدية كالمستشفيات والمحطات العامة، لكن تحقيق هذه الإمكانات يتطلب بيئة تشريعية داعمة، وتمويلاً كافياً لتحديث الآلات، وإدخال تكنولوجيا حديثة تعزز الكفاءة.
وفي هذا الإطار، بدأت غرفة صناعة دمشق في الحكومة السورية الجديدة بوضع خطط لدراسة تأثير قرار الاستيراد على القطاع، عبر مقارنة تكاليف الإنتاج المحلي مع المستورد، واقتراح أسعار استرشادية عادلة.
كما طالبت المصانع بمراجعة سياسات التسعير وتحسين الجودة لتعزيز ثقة المستهلك، هذه الخطوات، وإن كانت بطيئة، تعكس إدراكاً لأهمية الحفاظ على السيراميك في سوريا كصناعة استراتيجية، خاصة في ظل الحاجة الماسة لإعادة الإعمار.
اقرأ أيضاً: الرواتب عبر «شام كاش»: ثورة رقمية أم عبء جديد؟!
مستقبل صناعة السيراميك في سوريا
يرى الخبراء إن مستقبل صناعة السيراميك في سوريا مرهون بتحقيق توازن دقيق بين حماية المنتج المحلي وفتح المجال للتنافسية الصحية، لذا من الضروري دعم المصانع بتخفيض تكاليف الطاقة وتسهيل الحصول على التمويل، وفي الوقت ذاته، فرض معايير جودة صارمة على الواردات لضمان عدالة المنافسة.
ويؤكد الخبراء أنه وبهذه الرؤية المتكاملة، يمكن لسوريا أن تعيد لهذه الصناعة الحيوية مكانتها، ليس فقط كمنتج محلي، بل كرمز للجودة والاستدامة في المنطقة.