الاثنين 20 أيار/مايو 2024
قبل يومين من جلسة نيابية مخصصة لملف اللاجئين السوريين في لبنان، اقترح زعيم حزب الله حسن نصرالله فتح البحر أمام السوريين كي يغادروا إلى البر الأوروبي، وهو واثق من أن الأوروبيين سيهرعون لتقديم رشوة كبيرة للبنان كي يمنع انطلاق قوارب الهجرة من شطآنه. وكان سمير جعجع قد طالب بترحيل اللاجئين إلى سوريا، وفي الأيام الأخيرة أقدم الأمن اللبناني على ترحيل المئات من دون اعتراض أو اكتراث لبناني بمصائرهم.
قلائل جداً جداً من اللبنانيين هم الذين عبّروا عن تعاطف مع اللاجئين في وسائل الإعلام أو على وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن بسهولة ملاحظة عدم اكتراث أشخاص كانوا تقليدياً في موقع التعاطف. وإذ يمكن ردّ جزء من الاستنكاف عن التعاطف إلى الأحوال المتفجرة في الجنوب اللبناني، والتوجّس من المستقبل ككل، فإن هذا يبرر فقط نسبة ضئيلة جداً منه، لأن هؤلاء المتعاطفين المتقاعدين يتفاعلون على وسائل التواصل الاجتماعي مع أحداث أدنى شأناً وأثراً على الصعيد الإنساني.
إلا أن تراتبية التوصيف الأخير هي ما نفترضه نحن، أو يفترضه عموم السوريين لجهة منح أنفسهم مكانة إنسانية، وهو ما لا يتفق مع أحوالهم والنظرة السائدة إليهم من قبل آخرين، ولا يتفق حتى مع استنكاف الفئة المُشار إليها. ففي الواقع لم يعد يُنظر إلى السوري بوصفه إنساناً، إذا كان الوصف يتضمن كالمعتاد قيَماً في رأسها كرامة الإنسان التي تميّزه في المجتمع عن باقي الكائنات الحية. هذه الكرامة تقتضي، في الحد الأدنى مثلاً، عدم زجّ اللاجئين في الشاحنات كأنهم كائنات غير إنسانية ورميهم إلى المجهول.
السوري اليوم هو السوري العاري من كل ما يسند إنسانيته، ذلك في الوقت نفسه الذي صار فيه “قضية إنسانية”. فتعبير “قضية إنسانية” هو بالأحرى ملطّف عن اللاقضية وعن الشرط اللاإنساني الذي يقبع فيه الضحايا. أيضاً تعبير الضحايا يحيل هنا إلى العنف الذي أوصلهم إلى هذا الدرك، بمعنى أنه لا ينطوي على صلاحية مستمرة أو مطلقة.
وبخلاف الظن الشائع، لا تنال القضايا الإنسانية سوى تعاطف شرائح محدودة في العالم ككل. ومن الشائع جداً أن نيل التضامن والدعم مقترن بقضية ما ذات أفق سياسي، وأن تحوّلها إلى “قضية إنسانية” يؤذن بانحسار التضامن الواسع مع أبنائها، بل يُنذر ببدء التململ من أعبائهم على المجتمعات المتأثرة بمأساتهم. في حالات قصوى، خاصة في غياب القوانين أو تطبيقها، قد يتعرّض الضحايا إلى تعنيف إضافي “لفظي أو فعلي” من قبل المجتمعات المضيفة، لأنهم صاروا عملياً في أدنى السلم الاجتماعي، ولطالما دفعت الفئات الدنيا اجتماعياً ثمن موقعها رغم كونها نظرياً خارج أي صراع وأضعف من خوضه أصلاً.
السوري، موضوع الحديث، هو سوري مجازاً. ففي الواقع الراهن ليس هناك سوريا؛ ما هو موجود عبارة عن سلطات أمر واقع في جغرافيا ممزقة كانت تحمل هذا الاسم، ولا تتصرف أية سلطة منها بوصفها سلطة وطنية تسعى لتمثيل السوريين، بما فيها سلطة الأسد التي تشغل في الأمم المتحدة والهيئات الدولية مقعد الجغرافيا التي كان اسمها سوريا. أي أن السلطة الأخيرة، إذا صرفنا النظر عن كل جرائمها، ليست وطنية لأنها لا تدّعي ذلك ولا تتصرف على أساسه، وإلا لما وضعت “على سبيل المثال” شروطاً لعودة أبناء البلد، هي بمثابة ابتزاز للعالم بهؤلاء الذين سبق لها تهجيرهم.
لا يوجد اليوم سلطة ومعارضة سوريتين، إذ ليس هناك أي مشروع لدى الأولى، وفي المقابل منها ليس هناك مشروع سياسي معارض. النازحون وغير النازحين ينتمون بموجب إقامتهم إلى سيطرة واحدة من سلطات الأمر الواقع، أما اللاجئون في الخارج فمعظمهم ينتمي مجازاً إلى سوريا التي لم يعد لها وجود، بينما لا ينتمي واقعياً إلى أي كيان يمثّل الماضي أو يتطلع إلى مستقبل سوري.
هذا الانحلال السياسي شبه المطلق ساهم في تحويل السوريين جميعاً إلى “قضية إنسانية”، وبمؤازرة لا تُنكر من المعارضة التي لم يبقَ لديها ما تقوله بعد الظنّ أن التعاطف مع المأساة الإنسانية سوف يُترجم بتدخل دولي لإنصاف الضحايا. وإذا أعدنا الشريط إلى الوراء: هناك سوريون ثاروا من أجل مستقبل أكثر كرامة لهم، أي أنهم قاموا بفعل سياسي شجاع جداً ضمن ظروف القمع. خلال ثلاثة عشر عاماً تم تحويل السوري من كائن سياسي إلى كائن بيولوجي يتسوّل فرصة العيش الآمن هنا أو هناك، وضمن شروط لاإنسانية.
اليوم عندما يُحكى عن ملايين اللاجئين فالحديث هو عن ملايين المحتاجين إلى غذاء ورعاية طبية، والأطفال الذين لا يجوز في هذا العصر أن يكبروا بلا مدارس وتعليم، أي أن الاهتمام بمعظمه منصرف إلى حاجات بيولوجية، وهي حاجات لا تعطي السوريين أية ميزة عن ملايين المحتاجين في العالم. حتى القول أنهم وصلوا إلى هذا الدرك لأسباب سياسية، وهو صحيح، يفقد فعاليته خارج استخدامه في التوصيف طالما أن السوريين المعنيين لا ينظرون إلى أنفسهم أبعد من كونهم قضية إنسانية.
يجوز القول أنّ في أساس السلوك الغرائزي للسلطات المتوحشة تحويل البشر، متى طالبوا بحقوقهم ككائنات سياسية، إلى كائنات بيولوجية يعزّ عليها تأمين الحد الأدنى من العيش. بهذه الطريقة تتقوض المفاضلة بين ما كانوا عليه وما سعوا من أجله، لتكون المفاضلة بين ما كانوا عليه قبل ذلك السعي وما أوصِلوا إليه بسبب تجرؤهم. هذه أمثولة لا تخص السوريين وحدهم، ويُراد منها دائماً استخلاص النتيجة المعدّة سلفاً وهي الخنوع والاستسلام. ربما ما تتميز به الحالة السورية هو أن الاستسلام، بعد الثورة، لم يكن مأمون العواقب أيضاً.
يتحمّل السوريين على الأقل جزءاً من مسؤولية تحولهم إلى قضية إنسانية، فهُم لم ينتظموا على نحو يضطر الآخرين إلى النظر إليهم ككائنات فوق بيولوجية. لم ينتظم السوريون ذاتياً لا على المستوى الكلي ولا على مستويات أدنى، فهياكل المعارضة فقدت الرصيد المتواضع بدل زيادته، ولم تنشأ حتى هياكل وظيفية في بلدان اللجوء، فليس هناك مثلاً لجان عليا لتمثيل اللاجئين في الأردن أو لبنان أو تركيا. ليس هناك على الإطلاق ما يمكن تسميته باجتماع سياسي سوري، ولو كان اجتماعاً يعبّر عن انقساماتهم.
ثمة فكرة شائعة مفادها أننا في عالم لا يقيم وزناً للضعفاء، ولا شكّ في أنها تزداد وجاهة عندما يكونون ميؤوساً منهم، فكيف إذا كانوا هم مستسلمين ويائسين بالمطلق من أنفسهم؟
المصدر: المدن
- عمر قدور كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.