عيد الفصح في سوريا هو أحد أقدم الأعياد المسيحية، يحتفل فيه المسيحيون بقيامة السيد المسيح بعد أسبوع الآلام الذي يسبق يوم الفصح، ويُعرف أيضاً بـ”عيد القيامة”، وفي هذا العام يكتسي العيد طابعاً مميزاً إذ تحتفل به جميع الطوائف المسيحية في يوم موحّد، وهو يوم غد 20 نيسان 2025.
المسيحيون في سوريا
بداية وقبل الغوص في تفاصيل عيد الفصح وطقوسه، لا بدّ من ذكر أن المسيحيين في سوريا كانوا يشكّلون نحو 10% من السكان قبل اندلاع النزاع في 2011.
وكانوا يتوزعون في مختلف أنحاء البلاد، فلا تكاد مدينة سورية تخلو من وجودهم، لكنهم تمركزوا أكثر في الجزيرة السورية، التي تضم محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، وكذلك في وادي النصارى بريف حمص الغربي، وفي المدن الكبرى مثل دمشق، حلب، حمص، اللاذقية، حماة وطرطوس، أما اليوم، ورغم غياب الإحصائيات الدقيقة، تقدّر نسبتهم بنحو 3٪ فقط من السكان.
وتعد سوريا نموذجاً للتنوّع المسيحي، إذ تضم 11 طائفة، أكبرها الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وكنيسة الروم الملكيين الكاثوليكية المرتبطة بالفاتيكان.
وبسبب هذا التعدد، كان من المعتاد أن تحتفل الطوائف المسيحية بالعيد في أحدين مختلفين، عادةً ما يفصل بينهما أسبوع، فالمسيحيون الشرقيون، كالروم والسريان الأرثوذكس، يتبعون التقويم اليولياني الأقدم، أما الغربيون من الكاثوليك والموارنة واللاتين، فهم يتبعون التقويم الغريغوري الأحدث، لكن هذا العام، توحّد الجميع في احتفال واحد.
ويوجد عبر التاريخ محاولات عدة لتوحيد موعد عيد الفصح، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، قاد الأب إلياس زحلاوي جهوداً حثيثة لجمع الكنائس على تاريخ واحد، وقد نجحت الكنيسة الأردنية عام 1975 في توحيد العيد وفق التقويم اليولياني.
هذه التجربة ألهمت الكنيسة السورية، وفي عام 2023، أبدت الكنيسة السريانية الأرثوذكسية انفتاحاً لفكرة التغيير، مؤكدة أن الفرق بين التقويمين مسألة فلكية لا دينية، لكن هذه الخطوة لم تكتمل.
اقرأ أيضاً: عادات عيد الفطر حول العالم وأغربها
عيد الفصح في سوريا وجذوره التاريخية
ذكرنا بأن عيد الفصح من أقدم الأعياد المسيحية، فتاريخه يعود إلى بدايات المسيحية في القرن الأول الميلادي، وكما هو معروف، كانت سوريا من أوائل البلدان التي احتضنت المسيحية، وشهدت ولادتها ونموها، ولعل مدينة أنطاكية “هي اليوم في تركيا ولكنها كانت سورية تاريخياً” خير دليل على ذلك، فقد كانت مركزاً أساسياً لتنظيم الطقوس الفصحية.
طقوس وعادات عيد الفصح
تنقسم طقوس وعادات عيد الفصح بين دينية واجتماعية، ورغم التحديات التي عصفت بسوريا على مدى أكثر من عقد، إلّا أنّ الاحتفال بالعيد أمر لا يمكن الاستغناء عنه.
الطقوس الدينية
قبل العيد يوجد طقوس دينية عديدة، أهمها الصوم الكبير أو ما يُعرف بالصوم الأربعيني، وفي هذا الصوم يمتنع كثير من المسيحيين السوريين عن تناول اللحوم ومشتقات الحليب أو أي طعام يحتوي على منتجات حيوانية، ويستمر هذا الصوم بين أربعين إلى تسعة وأربعين يوماً.
ويتوّج هذا الصوم في أسبوع الآلام، وهو أسبوع مقدّس يسوده الهدوء وتغلب عليه الطقوس الروحية، وتبتعد العائلات عن الاحتفالات والموسيقا، ويستمرون بالصيام للإحساس بآلام المسيح، حتى أن بعضهم قد يكتفي بصوم هذا الأسبوع تحديداً لما له من رمزية دينية عميقة.
ويُعرف يوم الجمعة الذي يسبق عيد الفصح بـ”جناز المسيح” أو “الجمعة العظيمة”، وفيه يتناول الناس طبق بسيط يطلقون عليه “الحر والمر”، وهو سلطة يضاف إليها الخل بطريقة ظاهرة وطاغية على المواد الأخرى، والهدف من تناوله هو الإحساس بآلام المسيح عندما قام اليهود بدهن جسمه بالخل وأسقوه الخل عندما طلب شرب الماء.
أما ليلة السبت، أو “سبت النور”، يتوجه الناس إلى الكنائس، ويزورون قبور أحبّائهم، وتضاء الشموع وتقام صلوات “خروج النور”.
اقرأ أيضاً: رحلة تطور الزي السوري من الشروال إلى الجينز!
الطقوس الاجتماعية
يوجد عادات اجتماعية جميلة لا تزال حتى اليوم في سوريا، فالمعايدات لها طابع خاص، عندما يزور الناس بعضهم تُفتتح الزيارات بتحية: “المسيح قام”، ليرد المُعايَد عليه “حقاً قام”، فقد أصبحت المعايدة التقليدية “كل عام وأنتم بخير” غير شائعة عند كثر.
وفي بعض القرى يدعو “الوجيه” أو كبير العائلة جميع الأقارب إلى مائدة عامرة من باب التفاخر وترسيخ مركزه ومكانته، وبعض العائلات في المدن الكبرى قد تقوم بهذا الطقس أيضاً.
وهناك طقس إنساني راقٍ يُعرف بـ”أول عيد يمر على المكسور خاطرهم”، إذ يقوم الكاهن وأبناء الكنيسة بزيارة منازل العائلات التي فقدت أحد أفرادها منذ العيد الفائت، ويقدمون تعازيهم، في معايدة ليست للفرح بقدر ما هي لمواساة القلوب الحزينة والدعاء بسنة خالية من الحزن.
ولعل أشهر العادات الشعبية في عيد الفصح هو البيض الملون، فهو أول ما يرتسم في بالنا عند سماع اسم العيد، يرمز هذا البيض الذي يعشقه الكبار قبل الصغار إلى الحياة الجديدة، ويتحوّل في هذه المناسبة إلى طقس فني واجتماعي، إذ تجتمع العائلات لتحضيره وتزيينه، أو تقام ورش للأطفال لتلوينه والرسم عليه.
وليس البيض الملون للأكل فقط، بل يستخدم كذلك في ألعاب شعبية محبوبة تُعرف بـ”المفاقسة”، وفيها يتنافسون على صلابة البيض، يختبرونه بأسنانهم، يقومون بمبارزات ودّية، يضربون فيها أطراف البيض ببعضها البعض، ومن تنكسر البيضة خاصته في البداية يكون هو الخاسر، وصحيح أن اللعبة تخصّ الأطفال لكن الكبار يستمتعون بها أيضاً!
إلى جانب البيض، تقوم بعض العوائل المسيحية بتحضير الحلويات الشهية، مثل المعمول والـ”أقراص المبسبسة” التي تشبه إلى حد بعيد حلوى عيد الفطر لدى المسلمين.
ويحضّرون أيضاً “الأقراص المغطوطة”، وهي نوع من الخبز المصنوع من الطحين الذي يُعجن يدوياً الحليب، ويُزيّن بحبة البركة، ليُشوى في الفرن أو على التنور، وفي صباح العيد يتم تناوله كفطور إذ يُغمّس بالحليب ويُقدّم مع البيض، ويعتبر وجبة تقليدية متوارثة.
أما طعام الغداء في يوم العيد، فهو غني ومتنوع، مثل “المحاشي” من كوسا وملفوف وباذنجان، لكن الطبق المرغوب في كثير من البيوت يبقى الدجاج المحشي، واللحم المشوي أيضاً، ويرافق الطبق الرئيسي ما لذّ وطاب من مقبلات وسلطات.
وبالطبع، بدون ملابس جديدة لا يمكن اعتباره عيد! ومع ذلك تلعب الحالة الاقتصادية السيئة في سوريا دوراً في شراء الملابس، إذ أصبحت غالباً ما تقتصر على شراء ملابس للأطفال.
ومع ذلك كل من حالته المادية جيدة يحرص على شراء ملابس جديدة وتكون عادةً لامعة ومبهجة، فهو تقليد يعود إلى أزمنة بعيدة، خاصة بعد الملابس البسيطة التي يرتدونها خلال أسبوع الآلام، لتعبّر عن التحول من الحزن إلى الفرح، ومن الألم إلى الحياة الجديدة.
وتعقيباً على ذلك، قالت سوزان من مدينة طرطوس لـ”سوريا اليوم 24″: “الاحتفال بعيد الفصح هذا العام صعب قليلاً سواء من الناحية الأمنية أو الاقتصادية، والشعور العام لا يخلو من القلق، ولكن رغم ذلك المشاركة في القدّاس والاحتفال في الكنيسة أمر مفروغ منه”.
وعند سؤالها عن أكثر شيء تفضله في العيد قالت: “أحب كل طقوسه خاصة تلوين البيض، وأيضاً تعجبني عروض فرق الكشاف وعزفهم للتراتيل التي تبعث الأمل في النفوس”.
اقرأ أيضاً: الأغباني الدمشقي: فن ينسج الجمال في كل خيط
احتفالات الفصح في سوريا
وهذا العام، تقيم فرق الكشاف بمشاركة الفرق النحاسية في عدد من المناطق السورية احتفالاتها بمناسبة عيد الفصح بعد تدريبات شاقة تستمر لأيام، تتضمن الاحتفالات عزف للموسيقا والتراتيل إما داخل الكنائس، أو في شوارع المدينة، أو في مواقع مخصصة، ويقوم المسيحيون أيضاً في بعض الأحيان بمسيرات للشموع في أجواء يملؤها الهدوء والأمل.
ففي دمشق، لا سيما في باب توما والقصاع، تشهد الكنائس قداديس كبرى ترافقها الزينة التقليدية والمسيرات الليلية بالشموع، وفي حلب، تمتزج عراقة المدينة بصوت الأجراس التي تُقرع في كنائسها التاريخية.
ورغم أن الاحتفالات تجري وفقاً للطقوس المعتادة، فإن حالة من الحذر والخوف تسود المشهد العام في البلاد، بعد التحولات السياسية التي شهدتها سوريا مؤخراً منذ سقوط النظام السابق وحتى اليوم، فالمخاوف من تعرضهم لانتهاكات أو المساس بعاداتهم وطقوسهم لا تزال قائمة، خاصةً في ظل ما شهدته بعض المناطق من أحداث طائفية ومجازر مؤلمة في الساحل السوري، واستمرار الانتهاكات في مناطق عدة.
وفي محاولة لضمان أجواء آمنة خلال العيد، وفّرت وزارة الداخلية عبر قوى الأمن العام، حماية لبعض الكنائس من خلال نشر عناصرها في محيطها وتنظيم حركة المرور حولها، وربّما الأهم التعاون مع فرق تطوعية كنسية – تسمّى في دمشق “فزعة” – تهدف لتنظيم حركة المرور، والمارة، وضمان عدم حدوث إشكالات أو مشاكل أمنية قدر الإمكان.
ختاماً، رغم كل الظروف الصعبة، يأتي عيد الفصح هذا العام في سوريا محمّلاً بالأمل، ليكون شاهداً على استمرارية الحياة رغم العواصف، ومؤمناً بأن النور ستشرق من جديد في أرضٍ عرفت الظلم والظلمات طويلاً، ولا تزال.
اقرأ أيضاً: من بداية خجولة إلى القمة: كيف أصبحت الدراما السورية سيدة الشاشات؟