في زمنٍ تتهافت فيه الدول الخارجة من النزاعات إلى الحديث عن إعادة الإعمار، فاجأ وزير الاقتصاد والصناعة في الحكومة السورية الجديدة، نضال الشعار، المتابعين بمصطلح غير مألوف: «اختراع سوريا». هذا المصطلح لم يكن مجرد زلة لسان، بل تعبير دقيق عن رؤية مغايرة، تسعى، بحسب قوله، إلى بناء كيان جديد كلياً، مختلف في بنيته ومضمونه عن تلك الدولة المتداعية التي عاش السوريون تحت مظلتها طوال عقود.
ورغم ما يحمله المصطلح من طابع نظريّ أو حتى سوريالي، إلا أنه يطرح أسئلة جوهرية حول جدية هذا المشروع وحدوده، ومقدار التغيير الفعلي في تركيبة النظام القائم.
«اختراع سوريا»: مفهوم يتجاوز الإعمار
في حديثه لقناة «الشرق»، رفض الشعار مصطلح «إعادة الإعمار»، باعتباره عملية تكرار لنموذج سابق أثبت فشله، مفضّلاً عليه فكرة «الاختراع»، أي تأسيس دولة جديدة بمفاهيم مختلفة. هو لا يقصد مجرّد إصلاح البنى التحتية أو تفعيل الاقتصاد، بل يدعو إلى إعادة صياغة الدولة السورية نفسها: هويتها، مؤسساتها، وطريقة إدارتها.
يصف الشعار «سوريا الجديدة» بأنها دولة مسالمة، متقدمة تكنولوجياً، وتفخر بكفاءات أبنائها وتستثمر بها. وفي ذلك تأكيد على أهمية العنصر البشري في بناء المستقبل، لا الحجر وحده.
رجل المرحلة؟
لا يبدو الوزير الشعار اسماً عابراً في التشكيلة الحكومية الجديدة، بل يعد من أبرز وجوهها وأكثرها إجماعاً. فهو خبير اقتصادي بأبعاد أكاديمية وعملية، له خبرات في الداخل والخارج، ويُعرف باتصاله الجيد بالأوساط الأميركية، ما يضيف بعداً دولياً لرؤيته. لكن، رغم هذا الرصيد، اتسمت طروحاته في المقابلة الأخيرة بالاعتدال بعيداً عن إطلاق الوعود، وفي حديثه كان من الملاحظ ابتعاده عن الطموحات الكبرى المرتبطة بالدعم الخارجي أو الاستثمارات الضخمة، مفضّلاً التركيز على تحريك عجلة الإنتاج المحلي كأولوية وطنية.
تغيّر في طبيعة النظام.. أم مجرّد خطاب جديد؟
يتحدث الشعار عن تغيّر طبيعة النظام الحاكم في سوريا، ويراهن على ذلك، وهذا الرهان هو الأساس الذي يبني عليه الوزير كل رؤيته: من التشاور مع أصحاب المصالح الاقتصادية قبل اتخاذ القرارات، إلى التخلّي عن نماذج الهيمنة الاقتصادية التقليدية.
وإن صح هذا الرهان، يُفترض أن النظام الجديد قد تخلى أو سيتخلى عن سمات لطالما ميّزت الحقبة السابقة، منها تكريس سلطة طبقة اقتصادية مرتبطة بالنظام، احتكرت السوق والقرارات. لكن، ما مدى واقعية هذا الرهان؟ في الحقيقة المؤشرات الميدانية لا تزال ضبابية، لكن يبدو أن بعض ملامح النظام القديم لم تُمح بعد من المشهد السياسي والاقتصادي بعد.
هل السياسات ستتغيّر فعلاً؟
حديث الشعار عن إشراك الصناعيين والتجّار وموظفي القطاع العام في صناعة القرار يوحي بتوجه نحو شراكة أوسع في صنع السياسات الاقتصادية. وهذا ما يتناقض مع ممارسات الماضي، حيث كانت القرارات تُفصّل على مقاس حفنة من رجال الأعمال المتنفذين.
وشدد الشعار على مفهوم «سوريا المسالمة»، ما يشير إلى رغبة في الابتعاد عن الاصطفافات الإقليمية، ويبدو أن الوزير يراهن على الحياد كوسيلة لإعادة التوازن الداخلي واستقطاب رؤوس الأموال والخبرات السورية.
الإنتاج أولاً.. لا وعود برّاقة
اللافت في حديث الشعار هو عزوفه عن بيع أوهام نهضة سريعة، بل فضّل التحدث بلغة بسيطة: «لنبدأ بالإنتاج». بهذا الشعار، يخاطب السوريين لا كضحايا بل كفاعلين قادرين على دفع عجلة الاقتصاد، إذا ما أزيلت العوائق البيروقراطية والضريبية والفساد التي طالما خنقت المبادرات.
وهنا يبرز تفاؤله بتجاوز مرحلة العقوبات الخارجية، لكنه لا يربط خططه بها بشكل كلي. يرى أن الصناعي السوري تكيف مع العقوبات منذ 1979، وأن المطلوب هو تهيئة مناخ داخلي سليم للإنتاج. وكشف قيام بعض رجال الأعمال السوريين باستيراد أجهزة من الخارج لبدء العمل في 400 مصنع أو ورشة عمل في حلب. ولدى سؤاله من قبل المذيعة المعروفة زينة اليازجي عن كيفية حدوث ذلك وسط العقوبات المفروضة على البلاد؟ ابتسم وقال: «نحن سوريون»! في إشارة منه إلى أن السوريين الذين يمتهنون التجارة منذ 7000 آلاف عام -حسب قوله- يعرفون كيف يتدبرون أمرهم.
التفاؤل مشروع.. ولكن الحذر واجب
ربما يشكّل الوزير الشعار، بخطابه الجديد، بارقة أمل في مشهد يغلب عليه القنوط. لكنّ رهانه على تغيّر جوهري في طبيعة النظام يحتاج إلى ما هو أكثر من الأقوال. فالتجارب علمتنا أن الخطابات الجذابة لا تعني بالضرورة تحوّلاً حقيقياً. فهل نحن فعلاً أمام «اختراع» لسوريا جديدة، أم أمام إعادة تدوير محسّنة لمنظومة قديمة؟
الجواب مرهون بقدرة الحكومة الجديدة على تفكيك الإرث الثقيل للنظام السابق، وبمدى استعدادها لتبنّي نهج شفاف، تشاركي، يضع الإنسان والكرامة والعدالة والنمو في قلب المعادلة. وحتى ذلك الحين، يبقى حديث الشعار معلّقاً بين الحلم والواقع، وبين الأمل والتوجس.
اقرأ أيضاً: لتحسين الوضع الاقتصادي.. مصرف سوريا المركزي يتخذ خطوات هامة