الخميس 28 تشرين الأول/أكتوبر 2021
لربما مطلب الديمقراطية الذي ظهر في خطاب الشارع الثائر في بدايات الصراع مع النظام السوري كان مطلبًا أقل أولوية من قضية معالجة أزمة الثقة رغم ضرورة الديمقراطية الملحة لإرضاء الشعب.
في الحقيقة المشكلة تكمن في عمق الأزمة الاجتماعية في سوريا وهذا يبقى من ضمن مسؤولية الحكم أي النظام الذي رفض تطوير وتغيير أساليب إدارته لمؤسسات الدولة وهذا الإهمال بالنهاية أدى لكارثة الفوضى المدمرة والحرب.
انعدام الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة أمر موثق فهو لا يثق بمقدرة المسؤولين عنه على تأمين أبسط احتياجاته. وأزمة الثقة في سوريا تفاقمت وتكاد تكون مرضية حيث أنها تتجاوز الإطار السياسي لتصل لأضيق العلاقات الاجتماعية حيث المواطنون لا يثقون ببعض حتماً حصل هذا نتيجة اعتماد النظام الأساليب العسكرية المخابراتية للتعامل مع المواطنين ونشر حالة الريبة العامة.
المعارضة السورية بعد الثورة كان لها خيارات عديدة كالتأسيس لبناء الثقة المفقودة والعمل الجاد ولكنها استسهلت أو لم يتاح لها. ولم تتمكن من تطوير الأداء ولم ترتقِ لمستوى العمل الجاد بنظام مؤسساتي وجماعي بل كثر فيها المستقلين غير الملتزمين، وبالتالي هي لم تتمكن من العمل.
عمليًا لم يكن من الممكن إيجاد معارضة سياسية متوافقة ومنظمة لنظام من هذا النوع بهذا الحجم من الديكتاتورية فالسجون منذ عقود تكتظ بالمعارضين ولكن الأهم أنه ليس ممكنا تنظيم أي عمل سياسي جاد في سوريا بين أفراد مجتمع وفئات لا تثق ببعضها البعض. ولربما أكثر ما نجح به نظام الأسد على مدى عقود هو نزع عامل الثقة تمامًا بين الناس؛ وهذا كان ضمن استراتيجية انتهجها بعد سنوات الظلام (الثمانينات) بالتالي أي عمل سياسي في سوريا كان و ما زال مخاطرة
من جهة أخرى لأزمة الثقة هذه أعراض أخرى فهي نمت الشعور بالغبن لدى المواطن وزعزعت لديه الشعور بالانتماء أي بالمواطنة. حتى لدى الموالين، لدرجة أن هذا الوطن الذي يتحدث عنه المواطن السوري الموالي من الساحل هو ليس ذات الوطن الجامع الذي يعنيه الخطاب السياسي للقيادة في دمشق، الوطن في حديث الموالي داخليًا هو ما أطلق عليه سوريا المفيدة وهو الجزء الغربي الساحلي من سوريا، وسوريا المفيدة هذه بدت للموالين صرحًا واقيًا من المعارضة، وبقت فكرة غير واضحة المعالم تمامًا كفكرة المعارضة عن سوريا ومشروعها القادم. إذ ماذا بعد النصر وعلى من هذا النصر؟
هل يعقل أن ينتصر سوري على آخر وما اسم هذا النصر؟
في ظروف أخرى كان ربما يمكننا القول أن المنتصر الوحيد في الحرب هو السلام.
لكن وعلى هامش الحديث وعن وعود النظام للموالين له فهل يملك نظام الأسد أن يقدم لهم أو لغيرهم حكما وإدارة مختلفة عما كان قد قدمه لسوريا الكاملة على مدى عقود؟.
في الحقيقة لربما حان الوقت لأن نقر بأن أزمة الثقة هذه طالت الجميع وأصبح ممكناً على الأقل أن توحد المطالب الجمهورية لدى كافة المكونات، فحتى وإن شعر بعض العلويين لفترات طويلة بالتمييز الإيجابي عن غيرهم من المواطنين بحكم القرابة من العائلة الحاكمة فإن تجربة رامي مخلوف مؤخراً أثبتت لهم جديًا بأنه لا يمكن إعطاء الثقة لهذا النظام فهو لا يؤتمن وغير جدير بالثقة ككافة أجهزة ومؤسسات الدولة.
رامي مخلوف كان من أركان الحكم وكان متحكمًا بقطاعات اقتصادية عديدة وهو ابن خال بشار الأسد ومن أقرب المقربين له وكان بذات الوقت يشكل بحد ذاته عنصراً هاماً من عناصر انعدام الثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة .. ومع هذا خانه شريكه في الحكم في إطار المحاصصات اللا وطنية.
يبدو النظام كتلك الأفعى السامة التي عضت ذيلها ولم يعد لها مخرج فهو يؤذي البلد ويؤذي ذاته ومن معه. لقد توضحت للجميع فكرة أن هكذا حكم خطير حتى على أفراده أي أنهم هم أيضاً ضحايا خياراتهم التي تعتبر متخلفة بالمفهوم العصري لإدارة المؤسسات.
عندما نتحدث عن دول لا ديمقراطية مستقرة في العالم العربي نلاحظ أن سر استقرار هذه الدول هو عامل الثقة المتوفر بدرجات أعلى بكثير بين المواطنين أنفسهم في علاقاتهم الأكثر سلمية وبين المواطن ومؤسسات الدول المعنية.
حين وعد الأسد مواليه بسوريا المفيدة لم يحدثهم عن كيف سيحكمها قال لهم فقط ساحميكم من الثوار والإسلاميين، قاصدًا بقية الشعب.
ولكن لماذا يشعر هؤلاء بحاجة لمن يحميهم من مواطنين آخرين يعيشون بجانبهم ويتشاركون معهم معاناة مشتركة منذ عقود أو عصور؟.
من أخل بالعقد الاجتماعي التاريخي لكي تنعدم الثقة لهذه الدرجة بين السوريين؟.
هذا الشارع الثائر كان من المفروض أن يكون صوت كل سوريا بما فيها سوريا المفيدة وسوريا الكردية.. لماذا يا ترى لم يصل الصوت للجميع؟
بالنتيجة هذا الغضب الشعبي عام ٢٠١١، كان مشروعاً محقاً ولم يكن هناك مفر منه ورغم أنه تم خنقه بالدماء، لكن هذا لا يمكن أن يكون حلاً نهائياً لسوريا.
منذ سنوات و السوريون تائهين بالبحث عن حقيقة أسباب فشل الثورة ورغم تراجع بعض الشعبويين عن خطاب الفتح الإسلامي إلا أنه لم يجد بعد أحد عنوان من كان له مصلحة بإجهاض العمل السياسي للبناء الإصلاحي لسوريا بتلك الطريقة الإجرامية بحق السوريين. الجميع معني بتطوير أداء السلطة والمفروض أن يعي الموالي أو يوضح له كم هي مريضة هذه السلطة، الموالي أيا كانت ملته وعلته هو معني بأزمة الثقة وهو معني بالداء وبالعلاج وهو جزء من مشروع الغد. بدونه لا وطن ولا مواطنة، وتلك المعارضة التي لم يسمح لها أن تتشكل وتتأسس بجدية تبقى هي وحدها العلاج.
المصدر: نورث برس
- لمى الأتاسي كاتبة سورية