في أقصى الجنوب الغربي من سورية، لا تزال محافظة القنيطرة تُمسك بخيوط البقاء في مواجهة مفتوحة، لا تشبه سواها. فحيث الأرض محكومة بقوانين القذائف، والسماء لا تعرف السكون من تحليق المسيّرات؛ تتأرجح حياة السكان بين احتلال صريح وإهمال رسمي مستتر ربّما له ما يبرره، لكنّه مستتر مثله. وبينما تسجل «إسرائيل» يومياً حضوراً عسكرياً متقدماً على الأرض، تكتفي الإدارة السورية الجديدة ببيانات لا تمنع الجنود الغرباء من التقدم أكثر.. فكيف تعيش القنيطرة هذه الأيام؟ وكيف يصمد سكانها في قلب العاصفة؟
توغلات «إسرائيلية».. وترسيخ وجود عسكري جديد
منذ انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، استغلت «إسرائيل» الفوضى الأمنية لترسيخ وجودها العسكري جنوب سورية، وخاصة في محافظة القنيطرة. وخلال الأشهر الأربعة التي أعقبت ذلك، أنشأت تل أبيب سبع قواعد عسكرية داخل الأراضي السورية، وأجرت عمليات مسح سكاني في محاولة واضحة للتمهيد إلى ضم مناطق زراعية حيوية.
العملية العسكرية التي حملت اسم «سهم باشان» مثّلت نقطة تحوّل في طبيعة التوغلات، حيث لم تعد تقتصر على غارات جوية محدودة، بل شملت احتلال مناطق كاملة من القنيطرة ودرعا، مثل مدينة البعث وخان أرنبة وقرى جبل الشيخ، وصولاً إلى السيطرة على 12 نقطة عسكرية ومجموعة من التلال الحيوية، أبرزها تلول حمراء وشارة الحرمون. وأخطر ما في الأمر كان السيطرة على سبعة سدود رئيسية ومنابع مياه نهرية، بينها سد المنطرة الذي يعد الأكبر في جنوب سورية، مما شكّل تهديداً مباشراً للأمن المائي في سورية والأردن معاً.
صمت حكومي.. وغضب شعبي متصاعد
رغم خطورة المشهد، لم تواكب الإدارة السورية الجديدة التهديدات «الإسرائيلية» بردود فعل ميدانية ملموسة. فقد اكتفى مسؤولو الحكومة بإصدار بيانات إدانة واستنكار، دون أي تحرك فعلي على الأرض، وهو ما أثار غضب السكان المحليين، الذين طالبوا بتحسين الخدمات وتعزيز الوجود الأمني في بلداتهم، مع إدراكهم عدم جدوى الدخول في مواجهة مباشرة مع «إسرائيل».
الناشط المحلي سعيد المحمد يقول لمصادر عربية: إن «إسرائيل» تتوغل يومياً، بينما تكتفي الحكومة بـ«الخطب والبيانات». ويضيف: «نحتاج دعماً فعلياً، مساكن للنازحين، خدمات للباقين، لا وعوداً لا تنفّذ».
أمرٌ آخر يجعل الوضع أصعب، هو تغريب السكان عن الواقع والتحوّلات في سوريا. وفقاً لراميا، ابنة الجولان المحتل، وهي التي تحدّثت مع مراسل سوريا اليوم 24، فأهالي القرى التي يقطنها الدروز في الجولان يشعرون بنوع من أزمة الهوية، فهم من جهة لا يريدون أن يكونوا «جزءاً من مواطني إسرائيل»، فهم يدركون بأنّهم مهما علا شأنهم، سيبقون مواطنين درجة ثانية هناك. لكنّهم يتشككون في الحكومة السورية الجديدة وسلوكها السياسي والاجتماعي أيضاً. تؤكد راميا: «لطالما كان الدروز في الجولان المحتل وطنيين، يرفضون التخلي عن سوريا وطناً لهم. لكن اليوم، يشعر كثيرون بأنّهم عالقين بين إسرائيل المحتل من جهة، وسوريا التي لا يشعرون بتمثيلهم فيها من جهة أخرى».
يكرر رضوان أبو عمر، وهو من إحدى القرى الشركسية في القنيطرة، كلام راميا ولو اختلفت العبارات. وفقاً لما قاله أبو عمر لمراسل سوريا اليوم 24: «لا أحد من سكان القرية يريد دخول إسرائيل، فجميعنا نعتبرها محتل غاصب. لكن بمجرّد فراغ السلطة، ظهر لنا أشخاص مسلحون من بعض القرى المجاورة، هددونا بالتهجير مرددين عبارات من قبيل “أنتم أراضيكم في روسيا، أما هذه فهي أراضينا نحن العرب وأنتم قمتم باحتلالها… لهذا يشعر البعض بالحاجة لوجود سلطة تملأ الفراغ، ولو كانت سلطة إسرائيل».
مقاومة في وجه التهويد
أمام غياب الدعم العسكري، لجأ الأهالي إلى ما يمكن تسميته بالمقاومة المدنية. فرفضوا عروض بيع أراضيهم لوكلاء «إسرائيليين»، كما رفضوا المعونات «الإسرائيلية» رغم حاجتهم. هذه المقاومة الرمزية، وإن بدت ضعيفة، تعكس إصراراً على الحفاظ على الهوية السورية للأرض، حتى في وجه التهديدات اليومية.
وهنالك حدثان بارزان شكّلا استثناءً في المشهد، الأول كان عندما طرد شبان عُزّل دورية إسرائيلية حاولت دخول قرية السويسة، والثاني اشتباك فردي في ريف القنيطرة الجنوبي. لكن بخلاف ذلك، ظلت الجبهات صامتة.
اقرأ أيضاً: هل ستشهد سوريا صداماً تركياً – «إسرائيلياً» على أراضيها؟!
هذا وتبلغ مساحة القنيطرة حوالي 1200 كيلومتر مربع، لكن «إسرائيل» تسيطر منذ عام 1967 على ثلثيها. ومع سقوط النظام السابق، توسع الاحتلال الإسرائيلي، فيما بقيت المنطقة العازلة تحت إشراف أممي محدود الفاعلية. يعش أغلب سكانها الذين بلغ عددهم 123 ألف نسمة بحسب إحصاءات 2021، في ظروف نزوح أو تهجير داخلي، فيما رفض المئات منهم الجنسية «الإسرائيلية»، وواصلوا التمسك بانتمائهم السوري في القرى المحتلة، مثل مجدل شمس وبقعاثا.
وفي حديثه حول ذلك، يختصر أحد سكان مجدل شمس، المشهد قائلاً: «نحن سوريون محاصرون بين الاحتلال والإهمال، لا أحد يسمعنا، لا حكومة دمشق القديمة ولا الجديدة».
خدمات منعدمة… ومعاناة يومية
الحياة في القنيطرة ليست فقط تحت الخطر العسكري، بل تحت ضغط يومي بسبب انهيار الخدمات. فالسيطرة «الإسرائيلية» على السدود أدت إلى أزمة مياه خانقة، لا سيما بعد تدمير شبكات المياه في قرى عدة، وانخفاض منسوب التخزين في السدود إلى أقل من 30%. فالمزارعون لم يعودوا يزرعون، والعائلات تشتري الماء بأسعار باهظة الآن.
أما الكهرباء، فهي لا تتجاوز الأربع ساعات يومياً، وتغيب غالباً في الليل، ما يسهل عمليات التوغل «الإسرائيلي». وحول ذلك، يشير المهندس محمد العلي في حديث له لصحيفة «العربي الجديد» إلى أن غياب الكهرباء يعطّل تشغيل الآبار والمضخات، ويشلّ الحركة التجارية. أما الاتصالات، فتعتمد في بعض المناطق على أبراج لبنانية أو حتى إسرائيلية، مما يعرّض السكان لخطر الاختراق الأمني.
القنيطرة تصمد… لكنها لا تحتمل المزيد
في ظل كل هذه المعاناة، يواصل أبناء القنيطرة إرسال الرسائل إلى من يهمّه الأمر. فهذه المحافظة ليست مجرد أرض حدودية، بل رمز للكرامة والصمود، حتى وإن خذلها الجميع. ومع كل يوم يمضي، يتجدد السؤال: هل ستبقى القنيطرة تقاوم وحدها، أم أن ثمة من سيكسر جدار الصمت ويتدخل لإنقاذ ما تبقّى؟