كثيرة هي الأماكن الساحرة على امتداد الجغرافيا السورية، التي تتيح لك تجربة سياحية فريدة للاستمتاع بوقتك وقضاء لحظات جميلة، لكن ثمة أماكن تمنحك ما هو أكثر من ذلك، حتى تشعر بنفسك بين أروقتها مشبعاً بالدفء والرغبة بولوج التاريخ، لتصافح من سكنوا هذه الأرض وترتشف منهم ما يتاح لك من حضارة وثقافة وسلام، كما هو الحال في بلدة معلولا، إحدى أقدم المدن والقرى الآرامية في سوريا والعالم.
هل جربت يوماً أن تستنطق الصخور، تسألها عن آثار الحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض، وعما تركته لنا من مناراتٍ نهتدي بها لمواجهة ما يخبئه لنا هذا العصر من تحديات وجودية؟ في معلولا يمكنك ذلك، فأينما وليت وجهك ثمة آثار تاريخية محفورة في صخورها، تروي قصصاً آرامية ويونانية ورومانية وأخرى بيزنطية وعربية.
على بُعد 56 كم من دمشق، وبين السلسلتين الجبليتين الثانية والثالثة من منطقة القلمون، تتربع معلولا التي يعني اسمها بالآرامية “المدخل أو الممر”، حيث يمكنك أن تعيش تجربة نادرة تتجول فيها بين الأديرة والكنائس التي صنفتها منظمة اليونسكو على أنها من أهم وأقدم الآثار المسيحية في العالم، وأن تسمع اللغة الآرامية، لغة السيد المسيح، وهي تصدح في أرجاء البلدة، منادية إيانا ” حي على السلام”.
اقرأ أيضاً: معرة النعمان: مدينة أبي العلاء المعري، قيمتها التاريخية ورمزيتها!
املأ قلبك بالحب، وهلّم معنا نجول بين آثار البلدة التي تعتبر علامة فارقة في المعالم الدينية السياحية، فهنا تتربع كنيسة بيزنطية قديمة، وعلى الجانب الآخر أضرحة منحوتة في الجبل، وفي قلب البلدة تجد دَير القديس سركيس، الذي يعود تاريخه للقرن الرابع الميلادي، وسمي بهذا الاسم تيمناً بأحد الفرسان السوريين الذين قُتلوا عام 297 م.
ومن جوف الكهف الصخري الذي يُعتقد أن القديسة تقلا، ابنة أحد الأمراء السلوقيين وتلميذة القدِّيس بولس، اختبأت فيه هرباً من الجنود الرومان، يطل علينا دير مار تقلا الذي يضم جثمان القديسة، وتعيش فيه مجموعة من الراهبات المسؤولات عن رعاية شؤون الدير.
لنصعد معاً سطح الدير، نتأمل الغرف المحفورة في الصخر المنتشرة في جبال معلولا، والتي كان يختلي بها الرهبان لأداء مناسك العبادة والتأمل، حيث تتوزع هذه الغرف الصخرية على طول ممر يعرف بـ “فَجَّ مار تقلا”، وهو ممرٌّ ضيق يصل طرفي الجبل، داخله ساقية ماء تتفاوت غزارتها حسب الفصول.
وتروي الحكايات الشعبية أن القديسة تقلا أرادت الهرب بعدما أصدر الجنود الرومان الحكم عليها بالموت، فكان هذا الممر ملاذ الأمان الذي أبقاها في جانب والجنود الرومان في الجانب الآخر عاجزين عن الوصول إليها.
لم تنتهِ الرحلة بعد، هل لديك الرغبة في العودة للعصور القديمة لتشاهد كيف كان الإنسان يمارس طقوسه الدينية؟ تعال معنا لنجول بين آثار المعابد القديمة، كآثار معبد إله الشمس، والنصب التذكاري الجنائزي، والمدافن، وصخرة الآلهة المرتفعة التي يوجد أعلاها ثلاثة قبور، وفي شرقها إلهين متقابلين، وفوق رأسيهما قوس من الكتابة اليونانية.
اقرأ أيضاً: أهم المعالم السياحية في الساحل السوري
الإسلام حاضراً في معلولا
ولأن سوريا كانت وستبقى مهد الحضارات، يستحيل أن تضم بقعة منها كل هذه الحضارات وتغيب الشواهد الإسلامية عنها، ففي معلولا، جامعٌ قديم أُعيد بناؤه وترميمه في خمسينيات القرن الماضي، له منارة مربعة، يصدح بالآذان ليخلق مع أجراس الكنائس لوحة من السلام الذي طالما كان العنوان الأوحد لتعايش السوريين مع بعضهم على مر العصور.
اعتادت هذه البلدة الجميلة التي تكاد تعانق صخورها السماء، كممرات لأدعية أهل الأرض لرب السماوات، أن تحتفل سنوياً بثلاثة مهرجانات رئيسية: مهرجان الصليب المقدس في 14 أيلول، ومهرجان مار تقلا في 22 أيلول، ومهرجان مار سركيس يوم 7 تشرين الأول.
ليس عليك سوى أن تتأمل قليلاً في بيوت هذه البلدة التي يتربع بعضها فوق بعض، على شكل طبقات، لتتحول سطوحها إلى أروقة ومعابرَ لما فوقها من بيوت، حتى تدرك أن ثمة رسالة أرادت هذه البلدة إيصالها لنا، توصينا فيها بأن نكون، على اختلاف انتماءاتنا، كما هذه البيوت، متراصين جنباً إلى جنب، تشكل معتقدات كل منا ممراً للآخر يرتقي به نحو السماء، وهو محمّل بإرثه الحضاري الذي يتلاقى مع إرث الآخر، لنشكل معاً الرسالة الإنسانية التي أراد الله سماعها من جميع عباده، جميعهم دون استثناء.