في بادرة إنسانية أبطالها أطباء سوريون مقيمون في ألمانيا، تمّ إطلاق «حملة شفاء» الطبية لعلاج آلاف المرضى في سوريا، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة صحية خانقة خلّفتها سنين الحرب والعقوبات.
«شفاء» اسم على مسمّى
جاءت هذه الحملة بمبادرة من تسعين طبيب سوري مقيم في ألمانيا، وبتنظيم من المكتب الطبي التابع للتجمع السوري في ألمانيا (SGD)، وبالتعاون مع منظمة الأطباء المستقلين في سوريا ووزارة الصحة السورية، وتحت شعار «يداً بيد من أجل سوريا» يقدم الأطباء لأبناء وطنهم الدعم الطبي العاجل.
وتتنوع تخصصات الأطباء المشاركين في الحملة بين الجراحة العامة، جراحة القلب، جراحة الأعصاب، الجراحة البولية، جراحة الأنف والأذن والحنجرة إضافة إلى تخصصات دقيقة أخرى.
ويؤكد القائمين على الحملة أن الهدف الأساسي إلى جانب تقديم العلاج، تقليل عدد المرضى المنتظرين للعمليات، بعدما ارتفع بصورة كبيرة من 8000 إلى أكثر من 12000 ممن يحتاجون للتدخل الجراحي العاجل.
وفي هذا الصدد، أعربت وزارة الصحة السورية عن دعمها الكبير للحملة، إذ أكد وزير الصحة، الدكتور مصعب العلي، أن الوزارة منفتحة على هذا النوع من المبادرات الإنسانية، سواء جاءت من ألمانيا أو من أي دولة أخرى.
وبيّن العلي أن الوزارة وفّرت التسهيلات اللوجستية المطلوبة كافة، ونسّقت مع مديري المستشفيات والأقسام المعنية لتجهيز قوائم المرضى ودراسة حالاتهم بدقة قبل البدء في إجراء العمليات الجراحية، كما منحت تراخيص مؤقتة لعدد من الأطباء السوريين المغتربين، لإتاحة العمل داخل البلاد بطريقة قانونية وسلسة، بعيداً عن الروتين الإداري المعقد.
اقرأ أيضاً: وزارة الصحة تطلق البرنامج التخصصي لجراحة الأطفال
إيثار يتخطى التحديات
وصل الوفد الطبي السوري إلى الأراضي السورية بداية شهر نيسان الحالي، لخدمة المرضى في عدد من المحافظات، من دمشق وحلب، إلى إدلب وحمص ودير الزور ودرعا واللاذقية، وستستمر مهمته حتى 26 من هذا الشهر.
ولكن ما أصبح اليوم إنجازاً على الأرض، لم يكن وليد اللحظة، ولم يكن طريقه ممهداً ومفروشاً بالورود، بل كان ثمرة جهود مكثفة استمرت لثلاثة أشهر من التحضير والعمل المتواصل، وخلالها، حصلت الحملة على دعم من منظمات إغاثية سورية، إلى جانب مساهمات مالية كبيرة جمعها الفريق بنفسه، إذ تبرع كل طبيب بمبلغ لا يقل عن ألف يورو لتمويل المبادرة.
وفي حديثه عن التحديات التي واجهت الحملة، أفاد الدكتور مهدي العمار بأن الفريق حاول تأمين دعم مالي من جهات حكومية وشبه حكومية في ألمانيا، لكن دون جدوى، وقال: «كنا نأمل في استجابة سريعة، لكنها لم تأتِ، فقررنا الاعتماد على قدراتنا ومواردنا السورية».
فإلى جانب المساهمات المالية، قام العديد من الأطباء بشراء مواد طبية على نفقتهم الخاصة لاستخدامها في علاج المرضى، كما تم تأمين مستلزمات إضافية من دول مجاورة وشحنها إلى الداخل السوري، نظراً لصعوبة تأمينها محلياً بسبب العقوبات المفروضة على البلاد.
فالعقوبات الاقتصادية التي طالت القطاع المالي، أدت إلى صعوبات كبيرة في تحويل الأموال التي جمعها الأطباء إلى سوريا أو حتى إلى البلدان المجاورة، ما زاد من تعقيد المهمة، لكن ذلك لم يوهن من عزيمة الفريق عن المضي قدماً في أداء الواجب الإنساني.
اقرأ أيضاً: مزارعو الحسكة بين أرض عطشى وأمل مفقود!
أزمة صحية كارثية خطّتها سنوات الحرب
منذ عام 2011، يعاني القطاع الصحي في سوريا معاناة حقيقية، لدرجة أن التقارير الأممية الأخيرة، خاصة في السنوات الخمس الماضية، عجزت عن وضع إحصائيات دقيقة لما يمر به، واكتفت بوصف الوضع الصحي بأنه أكثر من «المتدهور» فقد أصبحت المنشآت الصحية مرآة تعكس انهيار الدولة في ظل نقص حاد في المعدات الطبية، واحتكار الأدوية من قبل المسؤولين، وتهالك البنى التحتية للمستشفيات، إضافة إلى انتشار المحسوبيات والأخطاء الطبية.
الحرب التي استمرت لأكثر من 14 عاماً أعطت القطاع الصحي النصيب الأكبر من الدمار، ففي أيار من العام الماضي 2024، حذرت الأمم المتحدة من توقف 160 منشأة صحية في شمال غرب سوريا عن العمل، من ضمنها 46 مستشفى كان من المتوقع أن تعلق نشاطاتها بسبب نقص التمويل.
من جانبها، أكدت منظمة الصحة العالمية في كانون الثاني الفائت أن أكثر من 15 مليون شخص في سوريا، بينهم ملايين من النازحين داخلياً بحاجة ماسة للرعاية الصحية.
وقالت المتحدثة باسم المنظمة، مارغريت هاريس، إن المنظمة مستمرة في تقديم المساعدات الإنسانية منذ بداية الحرب، لكن التدمير الذي تعرضت له معظم المرافق الصحية في سوريا، زاد من صعوبة الوضع بسبب نقص حاد في التمويل.
وفي تقرير آخر لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، ورد أن 57% فقط من المستشفيات في سوريا، و37% من مراكز الرعاية الصحية الأولية، تعمل بكامل طاقتها، كما أضاف التقرير أن حوالي 15.8 مليون شخص في سوريا بحاجة إلى مساعدات صحية في عام 2025، أي أكثر من 65% من إجمالي السكان.
اقرأ أيضاً: الألغام: تركة الحرب الثقيلة تلاحق السوريين في كل خطوة
هل ستكون الحكومة الجديدة على قدر التحدي؟
لذلك، تتجه الأنظار اليوم نحو الحكومة السورية الجديدة، التي تقع على عاتقها المسؤولية الكبرى في إعادة بناء القطاع الصحي المتهالك.
وفي هذا السياق، أوضح وزير الصحة السوري أن الوزارة تسعى لبناء نظام صحي متطور، وتأهيل الكوادر الطبية وإدخال التكنولوجيا الحديثة في الأجهزة الطبية، مؤكداً أن الوزارة بدأت بالفعل خطوات جادة في إعادة تأهيل المستشفيات والمراكز الصحية.
جدير بالإشارة أن الوزير العلي كان قد بحث الاثنين الفائت مع الوفد الطبي للجمعية الطبية السورية-الألمانية «سيجما» سبل تطوير النظام الصحي، حيث أطلقت الجمعية حملة «نبضنا واحد»، التي تهدف إلى تقديم خدمات طبية وجراحية مجانية، تشمل عمليات نوعية ودعم الكوادر المحلية وتوفير المستلزمات الطبية.
وأكد الوفد أن الحملة ستستمر حتى نهاية الشهر الجاري، وستشمل عدداً من المحافظات السورية، بهدف تقديم العون للمحتاجين الذين لا يستطيعون تحمل نفقات العلاج.
اقرأ أيضاً: المياه المعدنية في سوريا.. من الكماليات إلى الضرورات
« حملة شفاء» بداية طريق العطاء
لن تكون حملة شفاء المستمرة لعشرين يوماً هي النهاية، بل ستكون بداية طريق طويل من العطاء مع خطط مستقبلية لتوسيع نطاقها، وإطلاق مزيد من الحملات خلال الشهرين القادمين للوصول إلى أكبر عدد من المرضى.
وبهذا تكون حملة شفاء بقعة ضوء تعد بمستقبل صحي أفضل، ومن المتأمل أن تصبح هذه البادرة وغيرها مما يشبهها أملاً حقيقياً يخفف المعاناة عن كل مريض في سوريا.
اقرأ أيضاً: فريق طبي قطري يجري 80 عملية بجراحة القلب في دمشق