ببدايةٍ خجولة وأحلامٍ كبيرة، شقّت الدراما السورية طريقها قبل عقود، حتى وصلت إلى قمة المجد، وما بين صعود وهبوط، يقبع عصرٌ ذهبيّ لا يُنسى، لامست فيه وجدان كل سوري وعربي، وضعت يدها على جروحنا فأبكتنا، أضحكتنا حدّ البكاء، أثارت فضولنا، وشكّلت ذائقة جيلٍ كامل ما زال يتغنى بها حتى الآن، وهنا، سنفتح دفاتر الماضي، لنعود إلى بداية الحكاية، ونتتبع خيوط مسيرة الدراما السورية التي جعلت منها أسطورة في ذاكرة الفن العربي.
أسماء أشعلت شرارة الابداع الاولى
بدأت الحكاية عام 1960 مع تأسيس التلفزيون السوري، حين انتقل عدد من رواد المسرح إلى الشاشة الصغيرة، مثل الفنانين الراحلين محمود جبر ونهاد قلعي ورفيق سبيعي، والفنان دريد لحام، من خلال البرنامج الكوميدي “سهرة دمشق”.
كما شهد هذا العام ولادة أول عمل درامي رسمي بعنوان “الغريب”، الذي تناول الثورة الجزائرية، وكان من بطولة ثراء دبسي وبسام لطفي، ومن إخراج سليم قطايا.
وفي سنوات لاحقة، ظهرت فرق مسرحية مثل “مسرح الشعب” و”مسرح حلب” و”مسرح الشوك”، الذي أسسه الفنان الراحل عمر حجو وقدم فيه تجربة نقدية جريئة بأسلوب ساخر، إذ كان يستمع إلى نبض الشارع وهموم الناس ويصيغها ببساطة وذكاء. هذه الفرق ساهمت في تشكيل نقابات فنية كانت أساساً لبناء قاعدة منظمة للدراما السورية.
وفي السبعينيات بدأ التنوع في الدراما، حين ظهر المسلسل التاريخي “انتقام الزباء” من إخراج غسان جبري، ودخلت الفانتازيا الساحة مع “دليلة والزيبق” من إخراج شكيب غنّام، كما تألقت مجموعة من الفنانين الشبّان، أمثال ياسر العظمة وأسامة الروماني، بظهورهم المسرحي في “ضيعة تشرين”. وهي المسرحية التي فتحت الباب لعروض مسرحية أخرى تمّ تسجيلها في التلفزيون: أبرزها “كاسك يا وطن” الشهيرة حتى اليوم.
وتزامناً مع حيوية المسرح، نمت الدراما التلفزيونية بسرعة مستفيدةً من موهبة المسرحيين، وظهرت شخصيات أيقونية مثل “غوّار الطوشة” الذي جسّده دريد لحام في أعمال كوميدية واقعية مثل “صح النوم” و”حمام الهنا”، كما اشتهرت مسلسلات مثل “الحب والشتاء”، و”لك يا شام” وهو أول مسلسل يعكس البيئة الشامية.
اقرأ أيضاً: فيلم سنو وايت: كيف تخسر 250 مليون دولار في ساعتين!
بداية النضج الفني
شهدت الدراما السورية خلال الثمانينيات نهضة لافتة جعلتها تتصدر المشهد العربي، دخل مخرجون جدد إلى الساحة، كثير منهم خريجو أكاديميات فنية من الخارج، جاؤوا بأفكار وتقنيات حديثة، مثل محمد فردوس أتاسي وهشام شربتجي وهيثم حقي.
وباتت الدراما السورية في هذه المرحلة منظمة أكثر، معتمدة على شخصيات قوية من أبرزها الفنان ياسر العظمة، الذي أطلق سلسلة “مرايا” عام 1982، وهي عبارة عن “سكيتشات” جمعت بين النقد الاجتماعي والسخرية الذكية، ورغم انطلاقتها في هذه الحقبة، إلا أن أوج تألقها كان منذ عام 1996 إذ أصبحت جريئة ومتنوعة، وقد استمرت حتى عام 2013، وهي حتى اليوم حاضرة على شاشات السوريين والعرب.
أما التسعينيات، فيمكننا اعتبارها الفترة التي ولدت فيه الدراما السورية الحديثة فعلياً، والتي نقلت المسلسلات إلى مستوى رفيع، وأحد أبرز أسماء هذه النقلة كان المخرج نجدة إسماعيل أنزور، الذي عدّه النقاد من المخرجين المهمين في تاريخ الدراما السورية، والذي غيّر قواعد اللعبة بأسلوبه الإخراجي المختلف ورؤيته البصرية المتقدمة.
وكان عمله “نهاية رجل شجاع” من بطولة الفنان أيمن زيدان والذي مثّل شخصية بطل شعبي “قبضاي” نقطة تحول كبيرة، إذ جمع بين السرد العميق والجماليات البصرية، أما “الجوارح”، المسلسل التاريخي الذي كتبه هاني السعدي وامتد لثلاثة أجزاء، فقد دمج الأسطورة بالواقع بأسلوب ملحمي أسر قلوب المشاهدين، لدرجة أنّ الشوارع كانت تخلو وقت عرضه!
ومن المخرجين الذين كان لديهم بصمتهم الخاصة خصوصاً في الأعمال الكوميدية، الراحل هشام شربتجي، فبعد أن شارك في إخراج أجزاء من سلسلة “مرايا” عام 1991، اتجه لتقديم أعمال كوميدية شهيرة مثل “عيلة خمس نجوم”، الذي تبعته ثلاثة أجزاء لاحقة وأبدعت فيه الفنانة سامية جزائري، ثم “يوميات مدير عام” و”يوميات جميل وهناء” و”بطل من هذا الزمان”، وقد تميزت أعماله بخفة الظل، وقربها من قلوب الناس.
وشهدت التسعينيات أيضاً ولادة نمط جديد مع عرض مسلسل “أيام شامية” من إخراج الراحل بسام الملا، وكان بداية مسيرة فنية خصّص فيها الملا جهده لتوثيق البيئة الدمشقية، من خلال سلسلة أعمال أشهرها “باب الحارة”، الذي استمر لمواسم كثيرة وتجاوز حدود الشاشة السورية ليصبح جزءاً من ثقافة الجمهور العربي.
وفي نهاية العقد، قدّم المخرج الراحل حاتم علي الجزء الأول من مسلسل “الفصول الأربعة”، الذي دخل القلوب قبل البيوت على مرّ سنين، وفتح الباب أمام أعمال اجتماعية تُروى من داخل البيوت السورية وتلامس وجدان المشاهدين.
اقرأ أيضاً: «معاوية».. المعادلة الصعبة بين الدراما والتاريخ
الدراما السورية وفترتها الذهبية
في هذه الفترة وبين عامي 2000 و2010، لم يكن هناك سياسة “المسلسل الواحد والبطل الأوحد”، بل ظهر تنوع كبير جداً في الأعمال، وقد استمر المخرج حاتم علي في رسم ملامح الدراما السورية بحسّ فني وإنساني متميز، بدأت هذه المرحلة مع مسلسل “الزير سالم”، عن نص لممدوح عدوان، وقد كسب قاعدة جماهيرية عريضة وما زال يُعرض حتى اليوم.
ونجاح هذا المسلسل فتح الباب أمام ثلاثية الأندلس، “صقر قريش”، “ربيع قرطبة” و”ملوك الطوائف”، هذه الأعمال رسخت مكانة الدراما السورية عربياً وعالمياً.
ثم انتقل لتوثيق القضية الفلسطينية تلفزيونياً عبر رائعته “التغريبة الفلسطينية” في عام 2004، التي عدّها النقاد والجمهور على حدّ سواء من أصدق ما قُدِّم عن النكبة ومعاناة الشعب الفلسطيني.
وفي أعماله الاجتماعية، غاص حاتم علي في أعماق المجتمع السوري وقدم دراما تحاكي الواقع بصدق من خلال مسلسلات أشهرها “أحلام كبيرة” و”عصي الدمع” و”على طول الأيام”، واشتهرت أعمال أخرى كان أبرزها “قانون ولكن” من إخراج رشا شربتجي وبطولة النجم المبدع بسام كوسا، وأخرجت رشا أيضاً مسلسل “تخت شرقي” الذي يمكن اعتباره نهاية حقبة ذهبية جاء بعدها تغيرات كبيرة في الدراما السورية.
اقرأ أيضاً: مسلسل آسر يجمع نخبة النجوم السوريين بعمل درامي مشوق
أما على صعيد الدراما التاريخية، فقد جاء مسلسل “الظاهر بيبرس” من إخراج غسان زكريا، وبطولة عابد فهد وإلى جانبه سوزان نجم الدين، ليقلب الطاولة كما قال الناقد رياض ابراهيم أحمد، مؤكداً أن الحوار لم يعد نجم العمل، بل الصورة والفعل والرؤية الإخراجية المتقدمة.
وتركت الدراما الكوميدية السورية بصمة واضحة في هذه الفترة، مع انطلاقة سلسلة “بقعة ضوء”، من إخراج المبدع الليث حجو في أوائل أجزائه، الذي منح الكوميديا السورية دفعة جديدة نحو واقع أقرب إلى يوميات الناس ونكاتهم العفوية، رغم أن العمل شهد لاحقاً تراجعاً في مستواه.
ولم يتوقف الليث حجو عند حدود هذا العمل، بل واصل مشواره في رسم الابتسامة بطريقته الخاصة، إذ جاءت “ضيعة ضايعة” بجزئيها عامي 2006 و2008، لتصبح علامة فارقة في تاريخ الكوميديا السورية، وحتى اليوم ورغم مرور سنوات طويلة على عرضه، يشكل هذا المسلسل جزءاً من يوميات السوريين في الوطن والغربة، ينسيهم همومهم ويرسم الضحكة على وجوههم.
ولا يمكن الحديث عن هذه الحقبة دون ذكر مسلسل “باب الحارة” الذي انطلقت أولى مواسمه عام 2006، وحقق شهرة واسعة خاصة في مواسمه الأولى، ليستمر بعدها مع 13 جزءاً على مدى سنوات.
لكن رغم النجاح الذي حققه “باب الحارة”، فإن عدد من المخرجين والكتاب السوريين رأوا أن المشهد الدرامي السوري قد شهد تحولاً ربما يكون ليس الأفضل، إذ رأى الكاتب محمود عبد الكريم، أن الدراما بدأت تفتقر إلى الجرأة والجدية التي تميزت بها أعمال الستينيات والسبعينيات، ورغم اعترافه بدور الرقابة في التقصير، إلا أنه يعتقد أن المشكلة تكمن في شركات الإنتاج التي تركز على تلبية ذوق المشاهد الخليجي على حساب هموم المشاهد السوري.
اقرأ أيضاً: من Adolescence إلى سوريا: كيف تسمّم الهواتف الذكية عقول أطفالنا؟
دراما الحرب دائماً موجعة!
واجهت الدراما السورية بعد 2011 تحديات كبيرة نتيجة النزاع والحرب في سوريا، ما أدى إلى تراجع الإنتاج وانقسام الوسط الفني، إذ توقفت العديد من شركات الإنتاج، واضطر كثير من الفنانين والمخرجين إلى مغادرة سوريا، ورغم هذه الظروف الصعبة، ولدت ظاهرة “الدراما المشتركة” التي جمعت فنانين سوريين ولبنانيين، وأُنتجت بشكل رئيسي في بيروت، حيث لاقت أعمال مثل “الهيبة” و”خمسة ونص” نجاحاً واسعاً، لكنها أثارت جدلاً حول ابتعادها عن الهوية السورية.
ويرى بعض النقاد بأنّ الدراما السورية لم تتراجع بالفعل في هذه الحقبة، فقد حافظت على تطورها رغم التحديات الأمنية والسياسية، وإن كانت قد لجأت إلى طرح قضايا مموهة أو سطحية، بينما بقيت محاولات فردية لطرح قضايا الحرب والنزوح، رغم محدودية انتشارها بسبب حساسية الوضع.
وكانت وتيرة إنتاج الدراما السورية خلال الفترة بين 2011 و2019 مستقرة، إذ بلغ المعدل السنوي حوالي 25 عملاً درامياً، ورغم أن هذا الرقم قد لا يبدو كبيراً مقارنة بالإنتاجات العربية الأخرى، إلا أنه كان إنجازاً ملحوظاً لدولة عانت بشدة.
ومن أبرز هذه الأعمال كان مسلسل “غداً نلتقي”، الذي سلط الضوء على الوضع الصعب للاجئين السوريين في لبنان، إضافة إلى مسلسل “ضبوا الشناتي” الذي عالج شخصية المواطن السوري في زمن الحرب بطريقة ساخرة ولكن معبرة، وشهد موسم 2019 انتعاشاً ملحوظاً مع ثلاث نصوص جريئة: “مسافة أمان”، “عندما تشيخ الذئاب” و”دقيقة صمت”، ما أثار العديد من التساؤلات حينها عن الوضع الرقابي.
اقرأ أيضاً: مسلسل قيصر خارج السباق الرمضاني بسبب غضب شعبي
محاولات العودة إلى القمة
مع تراجع حدة القتال في سوريا بين عامي 2020 و2022، بدأت الآمال تتصاعد نحو عودة الدراما السورية لتشكل نقلة نوعية من حيث الشكل والمضمون، وبالفعل، اتفق النقاد والمشاهدون في موسم 2023 على أن الدراما السورية استعادت قوتها وتفردها، بفضل تنوع القضايا التي تناولتها الأعمال.
فقد شهد موسم 2023 وفرة في القصص وتطورات عدة، وعلى سبيل المثال قدم “الزند – ذئب العاصي” من بطولة النجم تيم حسن، سرداً لمحنة الفلاحين في الساحل السوري خلال أواخر الحكم العثماني، وتناول مسلسل “النار بالنار” قضايا اللاجئين السوريين في لبنان، أما “ابتسم أيها الجنرال” من بطولة الفنان مكسيم خليل، فقد طرح لأول مرة قصص أروقة السياسة في القصر الجمهوري، كاسراً بذلك الحواجز.
وفي موسم 2024، شهدت الدراما السورية تحسناً ملحوظاً في الإنتاجية، حيث تم إنتاج نحو 20 مسلسلاً، وهو تطور كبير مقارنة بالعام السابق.
ورأى الناقد أحمد علي هلال أن تنوع القضايا في هذا الموسم أسهم في إثراء الثقافة الدرامية بين الجمهور، خاصة مع أعمال مثل “أغمض عينيك” و”العربجي” التي قدمت معالجة مبتكرة للمجتمع ومفهوم البطل الشعبي.
ورغم الإشادة والمديح، لم يخلُ الأمر من بعض الانتقادات، خاصة لغياب الأعمال الكوميدية، فقد أشار الناقد إبراهيم كسار إلى أن الدراما السورية بدأت تعاني من التكرار والرتابة، متهماً بعض الأعمال، مثل “باب الحارة”، بإنهاء المسلسل دون تجديد حقيقي، مع استمرار تقديم أعمال البيئة الشامية وكأنها تمثل كل ما يمكن تناوله من قضايا اجتماعية.
ورغم قلة الإنتاجات السورية في رمضان 2025 عمّا كانت في السابق، فقد لاقى مسلسل “تحت سابع أرض” و”البطل” إعجاباً كبيراً من المشاهدين، بينما حقق المسلسل الكوميدي “نسمات أيلول” الذي أخرجته رشا شربتجي نجاحاً ملحوظاً.
في الختام، ورغم ما شهدته الدراما السورية من تقلبات وتحديات منذ نشأتها وحتى اليوم، لا يمكننا إنكار أنها أنجبت أسماء لامعة من مخرجين وكتّاب وممثلين، ستبقى محفورة في ذاكرة التاريخ الفني العربي، وأنها كانت على الدوام مرآة صادقة لنقل نبض الناس وهمومهم ومشاعرهم، واستطاعت أن تتربع في قلوب المشاهدين في سوريا والعالم العربي عبر أجيال متعاقبة، واليوم، ومع التغيرات التي تشهدها البلاد، يبقى الأمل معقوداً على عودة الدراما السورية إلى ما كانت عليه في عصرها الذهبي، قوية، مؤثرة، أصيلة، وقادرة على التعبير عن روح الإبداع السوري وقوته التي لا تنكسر.
اقرأ أيضاً: الدراما الكورية: كيف تحولت إلى ظاهرة ثقافية عالمية؟