أصبحت الهواتف الذكية والإنترنت جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية، وتأثيراتها على الجميع باتت واضحة، خاصة على الأطقال والمراهقين، ومؤخراً أثار مسلسل المراهَقة Adolescence الذي عرضته منصة نتفلكس Netflix نقاشات حادة، إذ لفت إلى تأثير التكنولوجيا المدمر على المراهقين. ولربما يكون المسلسل قد استعرض التأثيرات في دول الغرب، ولكن يا ترى هل تختلف هذه التأثيرات بين المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية؟ وهل يمكن أن تحول الهواتف الذكية حياة جيل كامل إلى جحيم حقيقي؟ في هذا المقال، سنناقش تأثير التكنولوجيا على الأطفال والمراهقين في سوريا وكيف يمكن أن تغير حياتهم للأصعب، بالاستناد إلى تأثير موضوع المسلسل وما يشبهه عليهم.
ملخص مسلسل Adolescence
في البداية لا بد من معرفة قصة المسلسل، يروي المسلسل المؤلف من أربع حلقات قصة صبي اسمه جيمي، يبلغ من العمر 13 عاماً، ويُتهم بقتل زميلته في المدرسة، كاتي.
في البداية، يصر جيمي على براءته، لكن مع تقدم الأحداث يتضح أنه هو من قام بطعن كاتي حتى الموت، والمثير في الموضوع أن القصة لا تركز على ما إذا كان قد ارتكب الجريمة أم لا، بل على السبب الذي دفعه لذلك، إذ يتم الكشف عن تأثيرات سامة وكراهية للنساء عبر الإنترنت، والتي كان لها دور كبير في تشكيل أفكاره وسلوكياته.
أثار هذا المسلسل، الذي تم تصويره في إنجلترا، الجدل بقوة عندما تساءل عن الدور الذي تلعبه التفاعلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي في هذا النوع من الحوادث، وهي تفاعلات يصعب على الآباء والمعلمين فهمها بصورة كاملة.
ورغم أن القصة لم تؤخذ مباشرة من حادثة حقيقية، إلا أن ظاهرة العنف الاجتماعي التي تعد مشكلة مستمرة في المملكة المتحدة وفي أماكن أخرى، كانت مصدر إلهام لكتابة العمل.
حقق المسلسل الذي عُرض في آذار الماضي 66.3 مليون مشاهدة حول العالم، وأصبح من أكثر المسلسلات التي يتم الحديث عنها في المملكة المتحدة في الفترة الأخيرة، وقد وصل النقاش عنه إلى الدوائر السياسية، حيث صرح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بأنه شاهد المسلسل وأكد أن حكومته بصدد دراسة كيفية التعامل مع المشكلة المتزايدة المتعلقة بتطرف الفتيان عبر الإنترنت.
اقرأ أيضاً: الدراما الكورية: كيف تحولت إلى ظاهرة ثقافية عالمية؟
الهواتف الذكية سلاح مدمر يجوب العالم
تؤكد الدراسات أن الاستخدام المفرط للهواتف الذكية يضر بصحة المراهقين النفسية والجسدية، حيث يؤدي إلى ضعف التركيز واضطرابات النوم.
وبالطبع يختلف الأمر من دولة لأخرى، فعلى سبيل المثال في دول مثل الولايات المتحدة، يقضي المراهقون أكثر من 7 ساعات يومياً أمام الشاشات، ولا يختلف الحال كثيراً في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
لكن الخطر لا يكمن فقط في الوقت، بل في نوع المحتوى كذلك، من عنف وإباحية وسرديات متطرفة، فخوارزميات الإنترنت تدفع الأطفال والمراهقين نحو محتوى مشابه لما تفاعلوا معه مسبقاً ولو بداعي الفضول، ما يحول الفضول البريء إلى إدمان حقيقي، سواء للألعاب أو الإباحية أو حتى لأفكار خطيرة، دون أن يكونوا على دراية بذلك.
اقرأ أيضاً: حظر استخدام طائرات درون والإنترنت الفضائي دون ترخيص مسبق
هروب من سوء الواقع إلى جحيم الخيال!
رغم تشابه الآثار المدمرة لاستخدام الهواتف الذكية على الأطفال والمراهقين بين الغرب وسوريا، إلا أن اختلاف طبيعة الحياة والظروف ينعكس على شكل هذه التأثيرات وحدّتها.
ففي سوريا، وبسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية الصعبة التي تعاني منها، أصبح الهاتف المحمول الصديق الصدوق للأطفال والمراهقين، فاللعب في الخارج ليس آمناً في كل مكان، ولا يوجد كهرباء لمتابعة التلفاز تحت نظر الأهل، وحتى الأهل أنفسهم باتوا مشغولين، إما بكسب لقمة العيش أو بالتسلية على هواتفهم ومسلسلاتهم.
فلا يخفى على أحد أن بعض الأمهات يسلّمن الهاتف لطفلهن من عمر السنة، بحجة الكف عن البكاء أو أنه يجعله سعيداً، دون إدراك عواقب هذا “الحل السهل”، الذي يجعل وعي الطفل وسلوكه يتشكل غالباً بطريقة سلبية.
وبالفعل، لاحظ الكثير من الأهالي في سوريا تدهوراً في سلوكيات أطفالهم نتيجة الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية، فقد بات من المألوف رؤية طفل دون سن العاشرة يدمن الألعاب الإلكترونية العنيفة مثل “بوبجي”، ويتعرض لمحتوى عدواني على منصات التواصل الاجتماعي.
هذا التعرض المستمر للعنف الرقمي ومع غياب الرقابة، جعل من العدوانية سلوكاً معتاداً لدى بعض الأطفال، كما ظهرت مظاهر أخرى مقلقة مثل العزلة الاجتماعية، وفقدان الثقة بالنفس، وكل هذه العلامات تنذر بعواقب وخيمة على المدى الطويل.
اقرأ أيضاً: أنواع الشركات القابلة للتأسيس في سوريا.. دليل شامل للمستثمرين ورجال الأعمال
الآثار السلبية للهواتف الذكية
من أبرز الآثار السلبية للهواتف الذكية هي تراجع التركيز والتحصيل الدراسي لدى الأطفال، فعقولهم منشغلة بالألعاب والمسلسلات والانستغرام والتيك توك والدردشات مع الأصدقاء وحتى مع الغرباء، بدلاً من الكتب والدروس.
والمشكلة لا تتوقف هنا، فالاستخدام بلا رقابة قد يعرضهم لمحتوى غير لائق أو عنيف يطبع سلوكهم من حيث لا يدرون، ويقودهم إلى إدمان يصعب علاجه.
إلى جانب ذلك، قد يتعرض الأطفال والمراهقون في سوريا للتنمر الرقمي، خاصة في الأوضاع التي تمر بها البلاد وانعدام الوعي الرقمي، فآلاف التعليقات المسيئة والجارحة التي نراها يومياً على أي منشور تقريباً، مهما كان بسيطاً ولا يستحق التعليق عليه بسوء، تكشف عن أزمة أخلاقية عميقة.
هذا السلوك المؤذي لا يؤثر فقط على من يتعرض له، بل يعكس حالة جيل كامل بدأ يفقد بوصلة القيم والأخلاق، ويتجه نحو العدوانية والتعصب والسلبية والتنمر، وكأن الإنترنت أصبح متنفساً لتفريغ الغضب والكبت الذي يعيشونه، ولكن بطريقة تؤذي الآخرين وتدمر نفسياتهم.
اقرأ أيضاً: تحت سابع أرض: تعلّق به الجمهور فهل خذله في النهاية؟
ولعلّ واحدة من أكبر المشكلات الاجتماعية التي تفاقم هذا الواقع هي الطلاق، فقد سجلت المحاكم السورية في السنوات الأخيرة أكثر من 46 ألف حالة طلاق في عام 2022 فقط، بزيادة 11% عن العام الذي سبقه.
ففي كثير من العلاقات الزوجية، لا تمر سنوات قليلة حتى تتفكك العائلة، ويجد الطفل نفسه ضائعاً بين أبوين منفصلين، وبدل أن يجد من يطمئنه ويفهمه، يهرب إلى الهاتف وإلى عالم افتراضي لا يعلم أهواله ولكنه يشعره بأن له وجود.
والمضحك المبكي أن وسائل التواصل الاجتماعي نفسها، غالباً ما تكون سبباً رئيسياً في زيادة حالات الطلاق، وبات من الضروري فتح نقاش واسع حول تأثيرها الحقيقي على حياتنا وإيجاد حلول لذلك.
وإلى جانب التأثيرات النفسية، يؤثر الاستخدام المفرط للهواتف الذكية على صحة الأطفال، خاصة على العيون والدماغ، إذ يساهم في تأخر النطق وضعف الإدراك البصري.
اقرأ أيضاً: وزير الاتصالات: استخدام تقنيات حديثة تعتمد الألياف الضوئية لتطوير الاتصالات
ما الحل؟
يقدم الأخصائيون بعض الحلول لمواجهة التعلق المفرط بالهواتف الذكية على الأقل لتخفيف آثارها السلبية والالتفات للجانب الإيجابي منها.
من أهم هذه الحلول تنظيم وقت الراحة من قبل الأهل بوضوح، ومنع استخدام الهاتف قبل الانتهاء من الدراسة، أو قبل اللعب مع الأصدقاء، يمكن أيضاً تشجيع هوايات مفيدة كالرسم والرياضة والقراءة والموسيقا وغيرها.
ولا ينصح الخبراء إطلاقاً بالحظر المفاجئ لأنه قد يولد عناداً، بدل ذلك يجب الحديث مع الأطفال عن المحتوى الذي يتابعونه، وإيضاح المخاطر ودعم قدرتهم على اتخاذ قرارات واعية، كما يمكن استخدام أدوات الرقابة الأبوية لتنظيم الوقت وتصفية المحتوى بما يناسب أعمارهم.
ومع ذلك، هذه الحلول لن تنجح بالكلام فحسب، على الأهل أن يتذكروا أن أبناءهم يراقبونهم ويقتدون بهم، فلا يمكنهم طلب تقليل استخدام الهاتف والأب أو الأم لا يلتزمون بذلك!
اقرأ أيضاً: تعميم يسمح للمحامين بتنظيم وكالات البيع والشراء والهبة
جدير بالإشارة أن هذه النصائح تعطي نتائج أفضل عندما تُطبَّق من عمر صغير، لأن محاولة تغيير سلوك مراهق معتاد على الهاتف قد تؤدي إلى العكس تماماً، وبعد هذا الحديث، لا يمكن التعميم على الجميع، فهناك أطفال وأهاليهم يتصرفون بذكاء عند استخدام الإنترنت والهواتف، لكن ما يطفو غالباً على السطح هو الجانب السلبي، ذلك الذي لا يمكن تجاهله!
في النهاية، ورغم أن بعض الدول الغربية بدأت اتخاذ خطوات قانونية للحد من الاستخدام المفرط للهواتف لمن دون 16 عاماً، والذي يبدو من الصعب تطبيقه في سوريا، إلا أن الحل لا يكمن فقط في الحظر والمنع، فالمراهقون يحتاجون إلى توعية حقيقية أينما كانوا في العالم، وإلى من يساعدهم على بناء مناعة تجاه ما يواجهونه في عالم الإنترنت المتشعب.
ووسط هذه التحديات الحقيقية، يبقى الدور الأكبر للأب والأم، فالبيئة العائلية الصحية هي التي ستساعد الأطفال على استخدام التكنولوجيا بوعي، لا أن يكونوا أسرى لها، فالتكنولوجيا نعمة وليست نقمة، ولكنها بحاجة إلى من يوجهها في الاتجاه الصحيح.
اقرأ أيضاً: إنعاش الرياضة السورية بين الآمال المرجوة والتحديات القائمة