في عالم يعج بالتغيرات والصراعات، يظل التفاهم والحوار أرقى وسائل الشعوب لرسم ملامح مستقبلها. من بين ركام سنواتٍ من الانقسام والمعاناة، أشرقت في القامشلي بارقة أمل جديدة، حيث اجتمع ممثلو الأكراد في سوريا لوضع لبنة جديدة نحو حل مستدام للقضية الكردية في إطار وحدة سوريا. في هذا السياق، جاءت أعمال «مؤتمر وحدة الصف الكردي» لتؤكد أن التلاقي على القواسم المشتركة أكثر نجاعة من الغرق في خلافات الماضي.
مؤتمر القامشلي: بوابة لتأسيس مشروع كردي مشترك
شهدت مدينة القامشلي يوم أمس ختام فعاليات مؤتمر وحدة الصف الكردي، الذي استضاف حضوراً واسعاً لممثلي الأحزاب الكردية في سوريا. وقد أسفر المؤتمر عن اتفاق مهم يتمثل في صياغة رؤية سياسية موحدة، تمثل الإرادة الجماعية للكرد وتسعى لطرح مقاربة واقعية وعملية لحل القضية الكردية ضمن سوريا ديمقراطية لا مركزية.
وجاء في البيان الختامي أن الوثيقة المشتركة التي أقرها المجتمعون ستكون بمثابة الأساس الذي تنطلق منه الجهود القادمة. وتهدف الوثيقة إلى ضمان الحقوق القومية للكرد ضمن إطار وطني يحترم التعدد القومي والديني والثقافي لسوريا، مع الالتزام بالمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وتعزيز مكانة المرأة وحريتها في جميع المؤسسات.
ودعا المؤتمر إلى اعتماد هذه الرؤية السياسية كمنطلق أساسي للحوار، سواء بين القوى الكردية فيما بينها، أو بينها وبين الحكومة السورية في دمشق، فضلاً عن القوى الوطنية السورية الأخرى. وأكد البيان أن تحقيق وحدة الكرد من شأنه أن يعزز وحدة سوريا ويقوي نسيجها الاجتماعي، بعيداً عن ذهنية الإقصاء والهيمنة.
كما شدد المشاركون على أن بناء سوريا الجديدة يجب أن يكون شاملاً لجميع مكوناتها دون تمييز، وأن يرتكز على احترام كرامة المواطنين وضمان حقوقهم الدستورية، بما يجعل سوريا عامل استقرار في محيطها الإقليمي والدولي.
خطوات عملية لترجمة التفاهم إلى واقع
في سياق العمل المستقبلي، اتفق المجتمعون على تشكيل وفد كردي مشترك بأقرب وقت ممكن، مهمته نقل الرؤية إلى حيز التنفيذ من خلال التفاوض والحوار مع الأطراف المعنية على المستويين السوري والدولي.
وخلال افتتاح المؤتمر، ألقى قائد «قوات سوريا الديمقراطية» مظلوم عبدي كلمة أكد فيها أن وحدة الصف الكردي لا تتعارض مع وحدة سوريا، بل تدعمها وتحصنها. وأضاف أن المؤتمر هو حصيلة شهور طويلة من الحوار والتنسيق بين الأطراف الكردية، موجهاً الشكر للرئيس السابق لإقليم كردستان العراق، مسعود برزاني، على دعمه للمساعي التوحيدية.
برزاني: العمل المشترك ضمان للحقوق
ومن جانبه، وجّه مسعود برزاني رسالة إلى المؤتمر، نقلها مسؤول الملف السوري في كردستان العراق حميد دربندي، شدد فيها على أهمية وحدة الصف الكردي كخطوة أساسية نحو حل عادل للقضية الكردية في سوريا. وأشار برزاني إلى المعاناة التي عاشها الكرد بسبب عقود من الإنكار والظلم، داعياً إلى تعزيز العلاقات مع بقية مكونات المجتمع السوري لضمان بناء وطن يتسع للجميع.
اقرأ أيضاً: تحت المجهر: حول ماذا دار الحديث بين «قسد» وفرنسا في أربيل؟!
توحيد الصف: تجاوز إرث الانقسام

يأتي انعقاد المؤتمر في سياق مساعٍ حثيثة لرأب الصدع بين القوى السياسية الكردية في سوريا، والتي تباينت مواقفها خلال سنوات الثورة السورية. إذ انقسمت تلك القوى بين المجلس الوطني الكردي الذي انضم إلى الائتلاف الوطني السوري، وحزب الاتحاد الديمقراطي الذي قاد إنشاء الإدارة الذاتية في شمال شرقي البلاد.
وشارك كل من الطرفين في المؤتمر بـ 130 عضواً، إلى جانب ممثلين عن حزب المساواة والديمقراطية للشعوب الكردي التركي، والاتحاد الوطني الكردستاني العراقي، فضلاً عن أكثر من 400 شخصية سياسية من سوريا والعراق وتركيا.
وكان من أبرز الحضور محمد إسماعيل، ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي، إلى جانب بروين يوسف الرئيسة المشاركة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وإلهام أحمد مسؤولة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية. وقد شكل هذا التنوع مؤشراً إيجابياً على وجود إرادة جماعية حقيقية لدفع العملية السياسية الكردية نحو مسار جديد قوامه الحوار والشراكة.
ردود فعل وآراء
ولاقى انعقاد المؤتمر ونتائجه ترحيباً شعبياً في سوريا، وفي إطار تعليقه عليه، قال الكاتب والمحلل السياسي محمد هويدي: «من أجمل المشاهد التي ظهرت بعد سقوط النظام كان الاجتماع الكردي – الكردي تحت شعار وحدة الصف والموقف الكردي». واعتبره «مشهداً حياً يُجسد التنوع الثقافي والاجتماعي والسياسي والحضاري الموجود في المجتمع السوري، ورسالة واضحة بأن هناك فرصة لبناء سوريا جديدة تقوم على التعدد واحترام الآخر».
من جانبه، وفي إطار تعليقه على تحضيرات انعقاد المؤتمر، قال الكاتب السوري عصام حوج: «إن مراجعة سريعة لتطور القضية الكردية في القرن الماضي يضع بين أيدينا حقيقة أساسية: وهي أن الانجازات القليلة التي حققتها الحركة الكردية، من الاعتراف بالشعب الكردي كقومية ثانية الى جانب القومية العربية في العراق، الى الاستحواذ على ما يزيد عن 90 بلدية وتمثيل برلماني واسع في تركيا، الى حل مشكلة الإحصاء الاستثنائي في سوريا بعد 2011 انما تحققت نتيجة تفاعلات داخلية وتوافقات في هذه البلدان، فالأولى كانت مع الموجة الديمقراطية في العراق أيام حكم عبد الكريم قاسم، والثانية كانت عندما جرت مفاوضات السلام بين السلطة التركية وحزب العمال الكردستاني، والثالثة كانت من مفاعيل الحراك الشعبي الذي انطلق في 2011» حسب قوله.
وأكّد: «ينبغي التعاطي مع الملف الكردي في سوريا على أنه جزء من القضية السورية العامة، وأن الخيار الواقعي الوحيد هو التوافق مع السوريين عموماً وأبناء الجزيرة من عرب واشوريين سريان خصوصاً على حله في اطار عملية التغيير الشامل».