جبن، زيتون، مخلل ومكدوس، وكل ما لذّ وطاب من الأكلات التي تعدّ جزءاً لا يتجزأ من مائدة الفطور والعشاء في بيوت أجدادنا، كانت تُحفظ في غرفة تسمّى “بيت المونة” والتي اتسمت برائحة فريدة تحمل معها نفائح الأصالة والزمن الجميل. لكن مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرّت بها سوريا والمستمرة حتى الآن، بدأت هذه العادة الرائعة تتلاشى شيئاً فشيئاً.
على الرغم من ذلك، لا يزال الأمل والإبداع ينبضان في قلوب الكثيرين، تجدهم يشترون الخضار والحليب والزيتون، محافظين على طقوس خاصة تعيد إليهم ذكريات زمن خيّر، كانت فيه البركة والنِّعم تعمّ على الجميع، دعونا نسترجع معاً طرق أجدادنا في تحضير المونة وتخزينها، ونستكشف كيف تغيرت هذه العادة عبر الزمن.
اقرأ أيضاً: تحضيرات شهر رمضان بين فرحة القدوم وتفاوت الأسعار
بيت المونة وأطايب الطعام
منذ سنين خلَت، كان في كل بيت سوريّ غرفة مخصصة تُحفظ فيها المؤن التي تعدّ من فصل الصيف وتبقى طوال الشتاء، لهذه الغرفة شروط معينة، فكان يُفضل أن تكون معتمة وباردة قليلاً، تقع في مستوى أقل قليلاً من سطح الأرض، بعيداً عن الرطوبة.
وعندما تدخل بيت المونة، تُدهشك كمية الأطعمة اللذيذة وتنوعها وطريقة ترتيبها، ما يجعلك تشعر بالجوع على الفور. وكان لكل نوع من أنواع الطعام طريقة خاصة في الحفظ والتخزين.
فمع نهاية الصيف وبداية الخريف، كانت النسوة يجتمعن في البيوت، بعد شراء الخضار والمواد الغذائية المتوفرة في هذا الفصل، ويقضين ساعات في التحضير، كل نوع من الطعام كان يُعالج بطريقة معينة، فبعض الأطعمة كالحمص والفول والعدس كانت تُجفف وتُحفظ في أماكن مظلمة وجافة، بينما الكوسا والباذنجان واليقطين كانت تُربط على خيوط وتعلّق لحين جفافها.
كانت الملوخية تُفرط وتجفف، إما بأوراقها أو تُطحن بعد التجفيف لتصبح ناعمة، أما البندورة، فكانت تُحفظ حسب حجمها، الصغيرة تُجفف، والكبيرة تُطحن وتُغلى، ثم تُوضع في مرطبانات معقمة وتغلق بإحكام، وتُقلب رأساً على عقب لإخراج الهواء منها، ثم تُخزّن في مكانها المخصص.
ومن الفلفل كانوا يصنعون الفلفل المجفف المطحون ويستخدمونه كتوابل، أو يُطحن الفلفل طازجاً ويُجفف ليتحول إلى دبس شهي يضاف إلى العديد من الأطعمة.
اقرأ أيضاً: المعاجيق في سلمية أو المعجوقة السلمونية
وكان للمكدوس طقوسه الخاصة، إذ كانت عملية تحضيره تستغرق أياماً من العمل الجماعي والتسلية، تبدأ العملية بسلق الباذنجان الصغير، ثم يُملّح ويُوضع في قطع قماش نظيفة وفوقه ثقل، مثل الحجارة، وريثما يجفّ كان يُجهز الحشو، من خلال خلط دبس الفليفلة مع الجوز المقطع ناعماً والثوم. بعد ذلك يتم حشو الباذنجان ويوضع في مرطبانات، وبعد إخراج الهواء، يُغمر بزيت الزيتون الصافي، ثم يُغلق المرطبان بإحكام ليبقى ألذ صنف على المائدة لشهور.
وكانت لمنتجات الحليب حصة كبيرة في بيت المونة أيضاً، الجبن والقريش والشنكليش “السوركة” واللبنة المدعبلة. كل هذه الأطعمة كانت تصنع يدوياً بإتقان.
فالجبن البلدي يُصنع من تخثير الحليب بالغلي، ثم إضافة الخل، وبعدها يُصفى ليُجمع في كرات أو مربعات تُحفظ في الماء داخل جرار، كانت تُملح جيداً لتظل طازجة. أما القريش، فكان يُغلى ويُصفى ثم يُشمس ويُشكل على هيئة أقراص، واللبنة المدعبلة تُحضر من اللبن المجفف كثيراً ثم يشكلونها على هيئة كرات وتغمر بالزيت.
أما الشنكليش، الذي يختلف عن القريش قليلاً، كان يستخلص من تجفيف اللبن المغلي لمدة أطول، ثم يشكلونه أقراصاً ويحفظونه في أكياس أو عبوات في مكان مظلم، وكانت جدتي تضحك عندما أقول لها أن رائحة الشنكليش كريهة، وتقول لي أن رائحته هذه التي تعطيه طعمه الخاص المميز الذي يبحث عنه الناس حتى اليوم، ويشترونه بأغلى الاثمان. قبل تناوله كان يُغسل القرص بالماء ويغطى بالزعتر البري المطحون، وفي بعض المناطق كانوا يضيفون إليه الفلفل الأحمر المطحون لإضفاء الطعم الحار.
اقرأ أيضاً: الحرحورة الحمصية هكذا ظهرت إلى الوجود
الزيتون والمخللات
وفي موسم قطاف الزيتون، الذي غالباً ما يكون في الشهر العاشر وما بعده، كانت بعض الأسر يقطفون الزيتون، بينما كان الآخرون يشترونه، ولحفظه وتخليله، يرصّ في البداية، أو يُجرّح، ثم يُغسل ويغمر في مياه مالحة وحمض، وكان البعض يضيفون المطيبات إليه مثل الزعتر البري أو إكليل الجبل وقطع الليمون والثوم، وفي طرق أخرى، كان الزيتون يُفرغ من البذور ويُحشى بحشوة تشبه حشو المكدوس، ويغمر في الزيت.
أما الزيتون الأسود المكلس، فكان يُغسل جيداً ويُغمر بالماء مع كمية معينة من الكلس، ثم يُنقع ليوم كامل، وبعدها يُصفى ويُغسل ويُغمر بالماء المملح مع قليل من السكر، ثم يُحفظ في جرار فخارية أو زجاجية، ويبقى لسنوات عديدة.
وتعدّ المخللات من أشهى المقبلات، بألوانها وتنوعها، من مخلل الخيار إلى الفلفل والجزر والطماطم والباذنجان والملفوف، كانت تُغلى المياه ويُضاف إليها الملح والخل والسكر بمقادير معينة، وتُوضع الخضار كل على حدة بعد تقطيعها في مرطبانات وتغلق جيداً، لتصبح بعد فترة من الزمن مشهيات جانبية رائعة مع الوجبات الرئيسية.
اقرأ أيضاً: من الفلافل إلى تماري الكعك.. أشهر أكلات الشارع السوري!
أما ورق العنب فكان يُنقى ويُصف بحسب الحجم، حيث تُسلق الأوراق نصف سلق ثم تُبرد وتُرص في المرطبانات، لتبقى صالحة لسنوات، وهناك طريقة أخرى لحفظه وهو أخضر، حيث يُحفظ في قماشات نظيفة، لكن هذه الطريقة تجعله صالحاً للأكل لفترة أقل.
حفظ أجدادنا أيضاً العديد من المواد الغذائية في بيت المونة، مثل السمن البلدي والزبد والزيت، إضافة إلى الأرز والبرغل الذي يشوى ويحمّص ليصبح فريكة، أما البرغل فيتم تحضيره عبر خطوات دقيقة تبدأ بترطيب القمح، الذي يُنشر في الهواء حتى يصل إلى رطوبة تبلغ 10%، بعد ذلك، يُقشر القمح ويُجرش ليصبح جاهزاً للاستخدام في مجموعة متنوعة من الأطباق.
كانوا يجففون أيضاً أنواعاً من الزهور والأعشاب مثل المليسة والميرمية والقرنفل والورد والبابونج واليانسون، لتستخدم كمشروب مغلي في حالات المرض والزكام.
اقرأ أيضاً: المطبخ الحلبي ميزة المدينة وسرّها
حفظ الفاكهة وصنع المربيات
وللفاكهة حديثٌ آخر، فكانت تُطهى مع السكر لصنع مربيات شهية يعشقها الصغار والكبار، ومن أشهر المربيات التي تحضّر في سوريا مربى المشمش والتفاح والعنب والبرتقال والورد والكرز والسفرجل. حتى الباذنجان كان يُستخدم لصنع المربى، ويعدّ مربى الزفير من الأنواع الشهيرة في الساحل السوري.
أما التين كان يُحفظ بطرق خاصة، حيث يُجفف ويُربط في خيوط، وفي بعض المناطق، كانوا يطحنونه ويطهونه، ثم يشكلونه على هيئة كرات لذيذة ومفيدة يسمونها “هبّول التين”، ليكون دواءً شافياً، ولا يزال البعض يعتمد على شرب مغلي التين اليابس لعلاج السعال، والرمان كذلك كان يجمع في أعواده ويعلّق في سقف بيت المونة ليبقى طازجاً طوال السنة ، ليؤكل كما هو أو يضاف إلى بعض الأكلات اللذيذة، أو يُعصر ليضاف لبعض الطبخات مثل الكبة السفرجلية، ويُغلى أيضاً ليتحول إلى دبس الرمان الذي نستخدمه حتى اليوم في أكلات كثيرة.
اقرأ أيضاً: حرب الأطباق الشهية بين المطبخين الحلبي والشامي
بيت المونة وتحديات العصر
مع مرور الوقت ودخول الثلاجات إلى البيوت السورية، قلّ الاعتماد على بيت المونة. أصبحت الخضراوات تُسلق وتُعبأ في أكياس بلاستيكية وتُجمد، وبقي السوريون يعتمدون على هذه الطريقة لسنوات طويلة، لكن مع سنوات الحرب وما رافقها من انقطاع الكهرباء، عاد البعض إلى طرق أجدادنا في التخزين، لتعود الأصالة إلى البيوت، ولو من باب غير الذي كان يُدخلها.
ومع ذلك، أثرت الظروف كثيراً على الأوضاع المعيشية وعلى الأسعار التي أصبحت غالية جداً، فلم تعد الأسرة السورية ذات الدخل المتوسط أو المنخفض قادرة بأي طريقة على تخزين المواد بأكملها، فأصبحت المؤن تقتصر على نوع واحد أو نوعين من الطعام وقلّت الأصناف اللذيذة تدريجياً على المائدة، كما أن تغير المناخ لعب دوراً مهماً على عملية تخزين المؤن، فقد أصبحت الخضار والفاكهة تتواجد تقريباً في كل أوقات السنة فلم يعد الناس يحتاجون للتموين.
ختاماً، كان بيت المونة في الماضي يمثل الدفء والمحبة والأمان، حيث كانت الأمهات تصنع كل ما فيه مع لمسة من الحبّ ورشّة من الحنان، وقد لا يعود هذا التقليد الرائع إلى البيوت السورية كما كان في السابق، لكنه سيبقى في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، يعبّر عن هوية ثقافية أصيلة ويذكرنا بتراثنا الطهوي الغني.
اقرأ أيضاً: حراق أصبعو ما قصة الأكلة الدمشقية؟