في شطرنج العلاقات الدولية، لا تتحرك الدول العظمى على رقعة الشرق الأوسط عبثاً. فلكل خطوة حساباتها، ولكل تحالفٍ أهدافٌ لا تعلن دائماً في البيانات الرسمية. وبينما يعاد رسم المشهد السوري بعد سقوط النظام السابق، يبرز تساؤل جوهري: هل ستفتح سوريا أبوابها للتنين الصيني، وهل ستغامر بكين بالدخول إلى البيت السوري الذي لم تنطفئ نيرانه بعد؟
أول لقاء بعد الأسد: رسائل بلا تفاصيل
في تطوّر لافت، شهد قصر الشعب في دمشق أول لقاء رسمي بين رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع والسفير الصيني شي هونغ وي، بعد أكثر من شهرين على سقوط الأسد. اللقاء، الذي لم يُكشف الكثير من تفاصيله، شكّل خطوة أولى باتجاه فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، لكنه في الوقت ذاته أبقى باب الاحتمالات مشرعاً أمام مستقبل غامض.
تزامن ذلك مع تصريح للمتحدث باسم الخارجية الصينية عبّر فيه عن تحفظات بلاده إزاء الدعوات لرفع العقوبات عن سوريا، مطالباً الإدارة الجديدة بخطوات «عملية» لمعالجة المخاوف الدولية، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب.
النهج الصيني في سوريا الجديدة
بحسب الدكتور سعيد الزغبي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قناة السويس، فإن الصين تتّبع نهجاً حذراً في التعامل مع سوريا الجديدة، في انتظار استقرار سياسي وأمني يضمن لها دخولاً آمناً إلى مشروعات إعادة الإعمار. ويُشير الزغبي إلى أن بكين، رغم دعمها السياسي السابق لدمشق في مجلس الأمن، لا تزال مترددة في ضخ استثمارات كبيرة في بلد ما زال يعيش تحت طائلة العقوبات الغربية.
الإيغور.. الملف الحرج
لكن الاستثمارات وحدها لا تكفي لفهم الموقف الصيني. فملف مقاتلي الإيغور في سوريا يبقى من أبرز الهواجس التي تحكم مقاربة بكين للملف السوري. فمنذ سنوات، تعتبر الصين وجود الإيغور المسلحين – خصوصاً في صفوف “الحزب الإسلامي التركستاني” – تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وقد زاد القلق بعد تقارير عن حصول بعضهم على مناصب رسمية في وزارة الدفاع السورية.
ويرى الخبير في معهد الشرق الأوسط، إبراهيم الأصيل، أن تحسين العلاقة بين بكين ودمشق لا يمكن أن يتم دون ضمانات حقيقية من الأخيرة حول هذا الملف، خاصة أن الحزب التركستاني لا يخفي طموحه في تصدير نشاطه المسلح إلى «تركستان الشرقية» – الاسم الذي يطلقه الإيغور على منطقة شينغ يانغ Shenyang الصينية.
اقرأ أيضاً: أربعة احتمالات لمستقبل مقاتلي سوريا الأجانب!
«الحزام والطريق»: حلم الصين في المرافئ السورية
بعيداً عن الملفات الأمنية، تنظر الصين إلى سوريا باعتبارها جزءاً من مشروعها الطموح «الحزام والطريق»، والذي يهدف إلى ربط بكين بالعالم عبر شبكات من البنية التحتية. موقع سوريا الجغرافي يجعلها نقطة عبور مثالية، وقد انضمت بالفعل للمبادرة عام 2022، لكن العقوبات وعدم الاستقرار عطّلا تنفيذ مشاريع حقيقية.
وفي حديث له، يؤكد الباحث علي محمود أن الصين مهتمة بمرفأي طرطوس واللاذقية، وقد تستثمر فيهما بالشراكة مع روسيا، إذا ضمنت بيئة آمنة وهادئة. لكن حتى الآن، لم تترجم هذه الطموحات إلى أرقام على الأرض.
سيناريوهان محتملان
وفق الزغبي، فإن العلاقة السورية الصينية تقف أمام مفترق طرق:
– السيناريو الأول: دخول الصين بقوة إلى ملف إعادة الإعمار، خاصة في مشروعات البنية التحتية، مع دعم مالي محدود ومشاركة تدريجية في الاقتصاد السوري.
– السيناريو الثاني: استمرار بكين في تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي فقط، دون المخاطرة باستثمارات قد تضعها في مواجهة مع الغرب.
هل تبعد السلطة الجديدة «الشرقيين» عن المشهد؟
رغم الخطابات التي ترفع شعار التعدد والانفتاح، إلا أنّ بعض توجهات السلطة الجديدة في دمشق توحي بعكس ذلك، كما يعلّق كثير من المحللين، إذ يُخشى أن يُقصى حلفاء الأمس من «الشرقيين» لصالح تقارب أكبر مع العواصم الغربية. هذا الميل ـ وإن بدا مفهوماً من زاوية البحث عن اعتراف دولي أو دعم اقتصادي ـ قد يُفقد سوريا توازنها السياسي ويضعف علاقاتها مع قوى كانت لها أدوار محورية في مراحل سابقة.
فالصين، كغيرها من القوى الشرقية، لا تنظر بعين الرضا لأي مؤشرات قد توحي بتغيير جذري في السياسة الخارجية السورية، خاصة إذا ترافق ذلك مع ضبابية في الملفات الأمنية التي تمس مصالحها.
ضرورة لا خيار!
وفي المقابل، قد تدرك السلطة الجديدة أن الخيارات الاقتصادية محدودة، وأنّ أبواب الدعم الغربي ـ رغم وعوده ـ لا تُفتح بسهولة، خاصة في ظل استمرار العقوبات. وهنا، قد لا يكون التوجّه نحو الصين خياراً سيادياً فحسب، بل ضرورة تفرضها الحاجة الماسّة إلى الأموال والخبرات. فبكين، رغم حذرها، تبقى من القلائل القادرين على ضخ تمويل في مشاريع البنية التحتية، ما يمنحها موقعاً تفاوضياً مميزاً.