غسان المفلح: سوريا والمجال الأمني الأمريكي

الأحد 31 كانون الثاني/يناير 2021

من خلال نقاشاتي مع الأصدقاء بخصوص أمريكا وإدارة أوباما، هنالك نقطتان لا بدّ من تأكيدهما، وقد أكدت عليهما مراراً وتكراراً منذ عقود: 

الأمر الأول: المنطقة الشرق أوسطية هي جزء عضوي من المصالح القومية العليا لأمريكا. ويتم التعامل مع كل ما فيها بناء على هذا المعطى الأمني، أولاً، وقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لهذا نحن نطالب أمريكا ولا نطالب دولاً أخرى بإنصاف شعوبنا. ويجب ألا تتوقّف هذه المطالبة أبداً وفضح سياساتها في كل بقعة من سوريا. عسى ولعلّ يتغير الوضع نحو الأفضل.

الأمر الثاني: أمريكا باتت حاضرة في كل تفصيل سياسي أمني يخصّ هذه المنطقة. لهذا أمريكا لا تحلّ أيّ ملف يخصّ الشرق الأوسط في أروقة الأمم المتحدة، ووفقاً للقانون الدولي، بل وفقاً “للقانون الأمريكي” والمصالح القومية العليا.

من باب الاعتراف والنقد، إسقاط نظام صدام حسين بعد احتلال العراق عام 2003، خلق لدي أملاً في أنّ أمريكا ربما تساعد شعوبنا في التخلّص من هذه الديكتاتوريات. لكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل بعدما وجدت أمريكا تسلم العراق لإيران. هذا الأمل أيضاً لم ينتج لأنّ أمريكا حيادية في المنطقة، أو أنّها لا تتحكّم بالمنطقة ومساراتها، بل لأنّها المتحكّم ومن خارج أطر القانون الدولي ومؤسساته وداخلها أحياناً. حتى إنّ أمريكا وافقت على قرارات مجلس الامن التي تنصّ على أنّ الوجود الأمريكي في العراق هو احتلال (القرار 1483 في 22/ أيار 2003). عندما تقرّ أمريكا أنّها دولة محتلة للعراق وفي قرار دولي، ثم تسلم العراق لإيران وتتركه ساحة حرب داخلية، يصير الدفاع عن السياسة الأمريكية مجرد تهريج دموي. هكذا الحال بالنسبة لليمن وليبيا وسوريا والصومال. الصومال الذي تركته أمريكا لعدم وجود نفط هناك، ولا يحتلّ موقعاً استراتيجياً، تركته لحرب أهليّة طاحنة، علماً أنّها أبقت على نشاطها الاستخباراتي والسياسي.

الحديث عن المصالح الأمريكية العليا في المنطقة، عموماً، وسوريا، خصوصاً، يأتي أيضاً من أنّ سوريا الحالية والتي تأسست وفقاً لاتفاقيات سايكس- بيكو 1916، هي بلد مدولن. هذه الاتفاقيات التي تم تبنيها من قبل عصبة الأمم المتّحدة. يمكن العودة بالطبع إلى أدبيات كثيرة عالجت هذه الدولنة بشكل مباشر أو غير مباشر. كتاب باتريك سيل الجزء الأول الذي يحمل عنوان “الصراع على سوريا”. أيضاً ما كتبه الدكتور غسان سلامة عن “أزمة الدولة المعاصرة في المشرق العربي”، وما كتبه الدكتور برهان غليون “محنة الأمة في الدولة” كما أسماها، وغيرهم.

هذه الدولنة أو التدويل Internationalization انتهت بعد فرنسا وبريطانيا، تشاركياً وتنافسياً، إلى دولنة أمريكية، دخل العامل الإسرائيلي عليها بقوة أمريكا. أزعم أنّ هذه القضية باتت بداهة لا تحتاج كثيراً لمجادلات ونقاشات، لأنّ سوريا ومعها المنطقة كلها، كنفط، وما يعنيه النفط بالنسبة لأمريكا، وكموقع استراتيجي في قلب العالم. يضاف إلى ذلك طبعاً المجال الأمني لإسرائيل الذي بات، منذ الستينيات من القرن الماضي، ضمن هذا المجال الأمني والمصالح القومية العليا الأمريكية.

ما يغفله الباحثون عن قضية أمركة العالم أو المنطقة هو تراكم القوة الأمريكية، ليس بوصفها احتلالاً من الخارج، بل وصلت إلى درجة من القوة أنّها احتلال داخلي. بات لديها مرتكزات داخلية في كل مجتمع على وجه الكوكب تقريباً. لا نريد التحدّث عن هيمنة اللغة الإنكليزية. لا نريد التحدّث عن هيمنة الإنترنت الذي هو أحد أهم مصادر القوة والأمركة معاً. لا نريد التحدّث عن قوة الحضور الهوليوودي في العالم، في كل بيت ومع كل فرد عبر موبايله.

التدويل Internationalization: يعتبر مفهوم التدويل من المفاهيم التي ترتبط بالعلاقات الدولية، والتدويل هو كناية عن نظام سياسي يخضع بموجبه بلد ما لإدارة دولية، تشترك فيها دول متعددة، وتصبح سيادة الإقليم “المدولن” تابعة لإشراف جماعي. هذا من التعريفات التي تحاول إيجاد موقع قانوني للتدويل في مدونات القانون الدولي وتفرعاته. لكن ما نتحدّث عنه هنا أنّ سوريا مدولنة خارج القانون الدولي أو تدويل لا قانوني Illegal internationalization. تدويل سوريا أمريكياً وفرنسياً، على سبيل المثال، كان واضحاً في مباركة عملية التوريث التي تمّت عام 2000 في سوريا، بمباركة مباشرة من جاك شيراك، ومادلين أولبرايت، وزيرة خارجية أمريكا، آنذاك. هذه محطة من التدويل خارج إطار القانون الدولي.

هذا ببساطة أيضاً هو التدويل الأمريكي الأوروبي لسوريا. احتلال أمريكا للجزيرة السورية هو أيضاً حلقة من حلقات هذا التدويل. احتلال تركيا لعفرين ورأس العين وتل أبيض، الاحتلال الروسي وكذلك الإيراني تمّا بموجب اتفاق مع الاحتلال الأسدي. أيضا حلقة من حلقات التدويل المباشر المسيطر فيه دوماً هو الأقوى. في حالتنا السورية أمريكا هي الاقوى.

طبعاً يضاف إلى ذلك عشرات القرارات من مجلس الأمن الدولي بخصوص سوريا منذ استقلالها، ولن يكون آخرها القرار 2254 القاضي بتسوية سياسية وتحقيق انتقال سياسي في سوريا 2015، أو ما يمكننا تسميته بالتدويل، وفقاً للقانون الدولي الذي تعبر عنه الأمم المتحدة ومؤسساتها. غايتنا هنا كانت الحديث عن التدويل خارج إطار القانون الدولي. يتضح أنّ أمريكا متدخلة في سوريا بشكل مؤكد وواضح، على الأقل منذ عام 1967. اتفاقيات الفصل 1974-1975 على الجبهة السورية، مثلاً، تمّت مباشرة بين أمريكا والأسد بغطاء سوفييتي رغم عدم رضا السوفييت آنذاك. السماح أمريكياً وفرنسياً لقوات الأسد بالدخول إلى لبنان واحتلاله، أيضا خارج القانون الدولي.

لم تكتفِ أمريكا بالسيطرة على الدولنة من بعيد، بل نتيجة رؤيتها للمنطقة وسوريا، جاءت بقواتها واحتلّت الجزيرة السورية. احتلّتها للحفاظ على المجال الأمني الأمريكي والمصالح الأمريكية العليا. وفقاً لهذا المنظور، إدارة أوباما احتلّت الثورة السورية. تدويل سوريا على هذه الشاكلة الأمريكية، لا علاقة له بأي حدّ إنساني، بل بنظرة أمريكا لسوريا بوصفها ملفاً أمنياً فقط حتى اللحظة… يتبع 

المصدر: ليفانت نيوز

  • غسان المفلح كاتب سوري