الاثنين 28 حزيران/يونيو 2021
إن لجوء النظام إلى العنف لقمع انتفاضة السوريين، وعدم الاستجابة إلى مطالبهم المشروعة سرعان ما خلق بيئة خصبة لتعميم العنف، سمحت بدورها بظهور العديد من الظواهر التي كانت غير مألوفة، بل مستهجنة أخلاقياً، عداك عن أنها تقع تحت المساءلة القانونية باعتبارها جرائم. تبيح الصراعات الداخلية للأسف، المحظورات، فتخريب منظومة القيم العامة الرافضة لها، وإنتاج منظومة قيم جديدة تبررها، عطّل تطبيق القانون ذاته، وأفسد أجهزة تنفيذه، أو صار يُكيف بما يغطي على جني الثروة بوسائل غير اقتصادية، خصوصاً عندما يكون أحد من السلطة، أو من أصحاب النفوذ هو المعني.
في مناخ الحروب والصراعات الداخلية العنيفة ثمة ما يسمى بالاقتصاد السياسي للعنف، أي الاستفادة من مناخ الصراع لجني الثروة بوسائل غير اقتصادية. الهدف في هذه الحالة واحد، وهو الحصول على الثروة، لكن الوسائل قد تتعدد كثيراً. ثمة من يستغل مناخ العنف للتجارة بأدواته المختلفة، وهناك من يتاجر بكل أنواع الممنوعات، ومن يعمل على تهريب الناس إلى الخارج مقابل النقود، وهناك من يخطف لطلب فدية وغيرها.
في ظروف الحرب الشاملة التي تجري على الأرض السورية منذ عشر سنوات انتشرت ظاهرة جني الثروة بأدوات ووسائل غير اقتصادية، وتمارسها أجهزة السلطة والمعارضة، وكذلك مواطنون عاديون. واللافت فيها أنها صارت أكثر تنظيماً، تقوم عليها عصابات محمية من أجهزة السلطة ذاتها، أو من قبل أصحاب النفوذ. المثال الأبرز في هذا المجال ما يسمى بـ”التعفيش” (غنيمة الحرب) الذي انتشر في جميع مناطق الصراع المسلح، ومن جميع أطرافه المشاركة فيه. مثال آخر، ما تقوم به مجموعات منتشرة على مفارق الطرق العامة تجني خوات تحت عنوان ضريبة “ترفيق” من جميع وسائل نقل البضائع والركاب، وبالطبع ليس مجهولاً الحساب الذي تذهب إليه حصيلة الجباية.
تتعدد كثيرا أسباب هذه الظاهرة منها ما هو سياسي له نتائج اقتصادية، ومنها ما له أسباب اقتصادية أساساً ومآلا. من المعلوم أن ظاهرة الاعتقال لأسباب سياسية كثيرة في ظروف الصراع المسلح، فتلجأ السلطة، بصورة خاصة، إلى اعتقال خصومها السياسيين حتى ولو تطلّب الأمر تجاوز القوانين المعمول بها أو التحايل عليها. فبحسب تقارير عديدة صادرة عن هيئات الأمم المتحدة المعنية، وكذلك عن منظمات حقوق الإنسان، فإن السلطة السورية اعتقلت نحو مائتي ألف سوري لأسباب سياسية، أغلبهم لم يشارك في عمليات عنف. ورغم أن السلطة أعلنت رسمياً وقف العمل بحالة الطوارئ، لكنها لم توقف سيران مفعول كثير من القوانين الاستثنائية التي كان معمولاً بها في ظلها، بل سنت قوانين جديدة أكثر تشدداً. إضافة إلى ذلك، فإن العائد الاقتصادي للاعتقال السياسي صار جزءاً أساسياً من عمل العاملين في أجهزة السلطة المسؤولة عن تطبيق القانون، تستهدفه على شكل فدية أو رشوة لقاء إطلاق سراح من تعتقله، أو تبرئه من قضية مدنية أو غير مدنية مرفوعة ضده. بالنسبة لهذه الأجهزة صارت تهمة الإرهاب من أكثرها عائدية اقتصادية، ولذلك فهي توجهها بسهولة لافتة لكل من يقع في قبضتها. ثمة تقديرات لحجم الأموال التي يتم جنيها عبر هذه المسالك السياسية تزيد عن مئات الملايين من الليرات السورية سنوياً.
على المقلب الآخر، فإن المجموعات المسلحة المعارضة قد مارست الخطف والاعتقال لأسباب سياسية واقتصادية تتعلق بالصراع المسلح، ليس فقط ضد جنود النظام ومناصريه فقط، بل بعضها ضد البعض الأخر. ومع أن ظاهرة خطف واعتقال، وحتى تصفية المخالفين في السياسة، أو في الأيديولوجية، أو المنافسين على النفوذ، كان، من حيث الأساس، لتحقيق مزيد من السيطرة والهيمنة لهذه المجموعات، لكن في جميع الحالات لم يكن الهدف الاقتصادي غائباً. غير أن ما يلفت الانتباه هو أن قسماً من السوريين الذين شاركوا في العنف كان هدفه منذ البداية جني الثروة، وما أن تحقق له ذلك حتى بدأ بتسوية أوضاعه لدى السلطة، أو مغادرة البلد. هذه الظاهرة شملت بعض الأجانب الذين قدموا إلى سوريا بذريعة القتال نصرة لإخوانهم في العقيدة أو في السياسة ، لكن هدفه الحقيقي كان جني الثروة.
ومن النتائج الخطيرة التي ترتبت على ظاهرة اقتصاديات العنف أن هاجر قسم كبير من أصحاب رؤوس الأموال، ونقلوا أموالهم ومصالحهم معهم، الأمر الذي تسبب بخسائر اقتصادية وبشرية كبيرة للبلد. إن منع هذه الظاهرة يكون من خلال تحمل السلطة لمسؤولياتها، وضبط أجهزتها، وتفعيل القانون، ورفع الغطاء والحماية عن الخاطفين أيا كانوا، لكن ثمة شك كبير بتنفيذه لكونه يحتاج فعلاً لهيمنة منطق الدولة، وليس منطق السلطة، وهو، على كل حال، صعب التنفيذ، في الظروف الراهنة، كما يقول مبرراً ذلك كثير من مسؤولي السلطة ذاتهم. لهذا السبب بدأ بعض المواطنين يلجؤون إلى ما يسمى “الحماية الذاتية” مما عقد كثيراً من وضعية اللا “أمن” في البلاد، لكنه زاد في رواج سوق اقتصاديات العنف. إنها حلقة مفرغة يدفع ثمنها المواطنون العاديون. في المقالة القادمة سوف نتحدث عن مجموعة من المبادئ الضرورية للإدارة الرشيدة للاقتصاد السوري.
المصدر: نورث برس
- منذر خدام كاتب سوري