مهند الحاج علي: عبد الفتاح الذي لم يكن والد ستيف جوبز

الجمعة 8 تشرين الأول/أكتوبر 2021

عام 2010، أي قبل 11 عاماً، وأكثر قليلاً، قرأت أن لستيف جوبز والداً سورياً اسمه جون جندلي (اسمه العربي عبد الفتاح جندلي). جوبز هو رائد الأعمال المميز ومُؤسس شركة “أبل” التي أنجبت حاسوب الماكنتوش وهاتف الآي فون والآي بود والآي باد وغيرها من المنتجات الرائجة حينها والآن على حد سواء. جوبز كان حينها رجل المرحلة، ممن تُنسب اليه قيادة شركة تُبهر العالم بمنتجاتها، وتُعرّف عادات المستخدمين وملامح المستقبل الذي يمزج اللمس مع تجاربنا الالكترونية التي اقتصرت على الطباعة فحسب.

جوبز كان أيضاً رمزاً للحلم الأميركي. شاب من عائلة أميركية عاملة ومتواضعة، يُؤسس شركة عالمية في مرآب المنزل. هذه القدرة على صنع المستقبل، حوّلت جوبز لرمز في العقود الماضية. لهذا، عندما قرأت أن الوالد البيولوجي لجوبز هو سوري الأصل، بدأت بالبحث عن معلومات لم أجدها حوله، إذ لم يُجر أحد مقابلة معه حينها. وجدت عنواناً له وحاولت التواصل معه لأسابيع طويلة، حتى رد عليّ واكتسبت ثقته، وأعطاني مجموعة مقابلات لكتابة قصته (نُشرت في جريدة الحياة).

كانت الأسئلة الأساسية في بالي عن اخفاق عبد الفتاح في أن يكون أباً. طبعاً من الصعب، لا بل من غير الجائز لأي كان، وأنا منهم، أن يُصدر أحكاماً مسبقة عن الصح والخطأ في قصة جندلي ونجله وزواجه والابنة أيضاً.

“أخفقت كأب”، قالها لي مرات. لكن الرجل عُوقب أيضاً على اخفاقاته، إذ اشتُهر ولداه، ستيف نتيجة دوره في عالم الأجهزة الالكترونية، ومنى سمبسون (الأصل جندلي) الروائية، وسُمي في سيرهم الذاتية كرجل تخلى عنهما (ستيف بالتبني، ومنى بعد الطلاق). في الحديث عن جندلي، كانت هناك الكثير من القسوة، لكن للابنة منى الحق الأكبر، بصفتها الضحية الأساسية هنا لغياب الأب، في الحديث عن العلاقة والحرمان، وقد فَعَلَت ذلك.

ما يعنيني من عبد الفتاح كان مختلفاً. هو سيرورة هذا الانسان في منطقتنا منتصف القرن الماضي. جندلي من حمص من أبوين لهما أصول متواضعة. والدته كانت ربة منزل تقليدية. والده عصامي دخل في مجال الصناعة واستطاع تحصيل ثروة، تمكن بعدها من ارسال ابنه عبد الفتاح للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت. هناك، تعرف جندلي الى قسطنيطين زريق وجورج حبش ووديع حداد، رموز حركة القوميين العرب ومن ثم الثورة الفلسطينية. في جلساتنا الأولى، لم يذكر جندلي لي معرفته بحبش وحداد، رغم ذكره علاقته بالعروة الوثقى (كان رئيساً لها في الجامعة الأميركية) و”حركة القوميين العرب”. لاحقاً، تحدث عن اجتماعات أسبوعية للتوسع بالمشروع السياسي وتحويل التيار الوحدوي الى مُحرك لتحرير فلسطين. جندلي كان حالماً بمنطقة مزدهرة في زمن ما بعد الاستعمار. ومثله مثل أبناء جيله تلقى الصفعات واحدة تلو الأخرى. “لم نحسب حساباً للوحش البعثي”، أي أن يخرج من الأحلام الوحدوية مسخ كذاك الذي حكم سوريا لعقود وما زال. مزيج من الصدمة والمرارة والخيبة.

غادر جندلي لبنان للدراسة في الولايات المتحدة حيث تعرف الى جوان كارول شيبل الوالدة البيولوجية لستيف جوبز وشقيقته منى. والعودة لسوريا والعلاقة بالمنطقة كانت بين أسباب تأزم العلاقة، وانتهائها بطلاق بعد زواج وطفلين قدّما أحدهما (ستيف) للتبني، وتدهورت العلاقة بالثانية بعد الطلاق. بيد أن جندلي عاد لسوريا فور اعلان الجمهورية العربية المتحدة. اعتقد حينها بأن هذا زلزال سياسي سيُعيد سوريا والعالم العربية الى الخريطة، ويُحرر فلسطين، ويُنتج ازدهاراً اقتصادياً. أدار مصفاة نفط في حمص، ثم عادت الانقلابات ومعها انتهى الحلم الوحدوي وانطلقت سلسلة خيبات لم تنته.

خيب أمله بمسار الأمور وسرعان ما غادر سوريا سعياً لحياة جديدة في الولايات المتحدة حيث تقلب بالوظائف بين أستاذ جامعي، ومدير لعدد من المطاعم ومن ثم رئيساً تنفيذياً لفندق فيه كازينو صغير. كانت الأمنية الملازمة له هي “يا ليتني لم أترك سوريا”. طبعاً، العودة لم تكن في الحسبان نتيجة فقدان الصلة بالمكان، والنهج القمعي لحزب “البعث” الحاكم.

وحين انطلقت الثورة السورية بعد شهور من تعارفنا وأحاديثنا، أراد جندلي لعب دور ما، ولو رمزياً، وساعدته في تسجيل فيديو تضامن مع الشعب السوري من مكتبه بالولايات المتحدة. كان يتألم كثيراً لما حل ببلده الأم. خلال السنة الماضية، فقدنا الاتصال، وعلمت بأن الموت خطفه قبل شهور قليلة.

رحل الرجل ومعه آلام وخيبات كثيرة واخفاقات طاردته حتى أيامه الأخيرة. ظلت المنطقة وسوريا ومدينة حمص خيالاً يُرافقه لأيامه الأخيرة. أُفكر فيه وبملايين السوريين ممن تشتتوا في أنحاء العالم، بحثاً عن بقايا حياة في ظل ذكريات وحرب وآلام لا تُفارقهم. لروحه الرحمة ولهم النجاة.

المصدر: المدن

مقالات أخرى للكاتب