الثلاثاء 12 تشرين الأول/أكتوبر 2021
أخذتنا أغنيات التراث، وما اعتدنا أن نسميه الزمن الجميل، إلى مواضع الحلم والوهم، ونجحت تلك الأغاني في تشكيل وعينا ونظرتنا للوطن على مقاسها وكما تهوى وتريد لا كما هي الحقيقة، لم نكن نعلم أن أغنية مثل (جنات عا مد النظر) أو (خضرا يا بلادي خضرا) و(وطني يا زمن الغيم الأزرق)، وغيرها من الأغنيات، تصنع لنا وعياً وهمياً بالوطن مغلفاً بالحلم ومغطس بصحن (الفتوش) فارتسمت في أذهاننا أوطاناً من (قطعة سما).
أعمتنا تلك الأغنيات عن رؤية الحقيقة وأمدت في فترة عمائنا في نظرتنا للوطن، فلم نتنبه أننا نعيش في سجون بلا سياج، ونعيش في قهر وذل فرضته علينا الأنظمة المستبدة وأجهزتها الأمنية التي نصّبت من نفسها حارسة للعروش، وعمينا عن رؤية المصالحة المشتركة بين تلك الأجهزة وبقاء أنظمتها التي تشغلها، المصلحة المتبادلة ببنهما خلقت أوطاناً من الموت والجوع والبطالة والاقتصادات المنهارة، أثرت أغنيات نصري شمس الدين ووديع الصافي وفيروز ومروان حسام الدين وأصالة نصري (حماك الله يا أسد) و(أمد يدي أصافح حافظ الأسد وأبايعه إلى الأبد)، وغيرها من الأغنيات، في عقولنا، وأسموها أغاني وطنية، وخلقت حالة من النوستالوجيا اتجاه وطن غير موجود إلا في الحلم ، وطن صنعته الأغنيات والقصائد المُدَبَّجة بحنكة.
كيف يكون وطنا ذلك البلد الذي قتل من أبنائه 500 ألف ومات تحت التعذيب في سجونه خمسون ألفاً؟ أي وطن هذا الذي يجبر مبدعيه على الهجرة، ويدفع برأسماله الوطني للهروب إلى مصر والأردن والعراق؟ أي وطن ذاك الذي دمر البيوت على رؤوس أصحابها، وهجر أهلها حتى بلغ عدد مهجريها 12 مليوناً؟ هل هي حقاً (سوريا حبيبتي) التي (أعادت لي كرامتي وأعادت لي هويتي)؟
بلغت من العمر خمسين عاماً ولم أختر في حياتي شيئاً، وعيت الدنيا فوجدت أن أولئك أمي وأبي ولا خيار لي في ذلك، ولكن الأخطر أني وجدت هذا رئيسي وهذا رئيس اتحاد العمال وهذا رئيس اتحاد الفلاحين وذاك رئيس اتحاد الشبيبة وذاك للطلائع والآخر لاتحاد الطلبة، خمسون عاماً وأنا أتابع في نشرات الأخبار المسائية ذات الوجوه وأسمع ذات الأسماء على الرغم من أن البلد انتقلت خلال تلك الفترة بعدة مراحل اقتصادية وسياسية وبدل حزب البعث من أيديولوجياته وأفكاره خمسين مرة إلا أن ذات الأوجه استطاعت البقاء والتأقلم مع كل الاشتراكيات التي اخترعها حزب البعث وصولاً إلى اقتصاد السوق الاشتراكي (آخر اختراعات البعث وبشار الأسد). خمسون عاما مرت وأنا أسمع عن علي دوبا وشفيق فياض وابراهيم الصافي. خمسون عاما وأنا أسمع عن خالد بكداش وصفوان قدسي ووليد حمدون.
خمسون عاماً وأنا أسمع أغنية (سوريا الدرب للوحدة العربية) ثم ندخل الاجتماعات الحزبية لنشتم جميع العرب من المحيط إلى الخليج ونتهمهم بالرجعية وعملاء الإمبريالية، خمسون عاماً نعيش هذا الانفصام بالشخصية بين شتم للعرب وبين (سوريا قلب العروبة النابض) وبين عمالة العرب من الماء للماء وبين (أمة عربية واحدة).
هل تتذكرون أغنية (أنا سوري وأرضي عربية.. أنا شعبي بطل الحرية)؟ وحين نادينا بالحرية وهتفنا لها خرج علينا زعران النظام وشبيحته بالعصي والمطارق والرشاشات والرصاص ومن ثم بالمدافع والطائرات، واستجلبوا شذاذ الأرض لقتلنا، ثم سلطوا علينا “مثقفيهم” في الإعلام ليتهمون كل من نادى بالحرية بأنه متآمر وبائع للوطن والكرامة مقابل (حفنة من الدولارات) كما قال (فنان الشعب) دريد لحام.
وعلى سيرة دريد لحام فإن خداعه لا يقل ألماً ووجعاً عن خداع تلك الأغنيات، فأنا شخصياً صدقته وصدقت مسرحياته التي تنادي بكرامة المواطن ومكانته وخاصة في مسرحية (كاسك يا وطن) حين يصرخ بوجه الجلاد قائلاً: (المواطن خلق ليرفع راسه مو رجليه). ثم اكتشفنا أن المواطن في بلدي يرفع كل شيء إلا رأسه فهو يرفع يديه بالدعاء عليهم، ويرفع قدميه للفلقة، ويرفع ظهره ليحملهم على أكتافه ويهتف بأسمائهم واسم القائد المفدى، كل شيء في سوريا قابل للرفع إلا الكرامة، إلا الرأس.
هل تذكرون حملة التعريب؟ صفقنا لها جميعاً واعتبرناها آنذاك موقفاً قومياً ودعماً للغة العربية وكنت من ضمن الذي صفقوا بحرارة لهذا القرار، لنكتشف فيما بعد أن المقصود هو جزء هام من أبناء سوريا، وأقصد الأكراد، وأن القرار كله لم يكن له معنى لأننا نتعلم اللغة العربية في مدراسنا أساساً وأصلاً، ولكن الغرض من هكذا قرار تعسفي هم الأكراد ومنعهم من تسمية أبنائهم بأسماء كردية ومنعهم من التحدث بغير اللغة العربية، في محاولة لقتل هوية مكون سوري يتجاوز عدد أبنائه الثلاثة ملايين نسمة.
(شام يا ذا السيف لم يغب) صدقت فيروز فالسيف لم يغب يوماً عن رقاب الشعب.
المصدر: نورث برس
- فؤاد حميرة كاتب سوري