الأحد 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2021
نشرت قناة العربية لسنوات طويلة برنامج “صناعة الموت”، حيث يتم التعريف بالوسائل والأساليب التي تدفع الناس إلى القتل والموت، ومن المؤلم أن ينتشر هذا المصطلح الرهيب، فيكون عنواناً للصناعة الحقيقية التي تتم في بلادنا البائسة، بحيث تتخصص أمم في صناعة الطائرات والسيارات والتكنولوجيا والعطور ونتخصص بصناعة الموت!.
فما هي عناصر الإنتاج لهذه الصناعة البائسة، وما سبب ازدهارها في هذا الشرق المنكد والمعذب؟؟.
لا بد من الاعتراف أولاً بأن التوجه الديني يتعاظم في العالم كله، وليس الكوكب في وارد التخلي عن الأديان، بل إن الأديان كافة تحقق مزيداً من الانتشار والحضور والتأثير، وقد باتت مراكز الإحصاء الدولي متفقة تقريباً (بخاصة المراكز الأميركية الثلاثة: مركز بيو ومركز أردا ومركز أدرنتز) على أن الذين لا ينتسبون لدين من الأديان لا يزيدون في العالم عن 17% فيما يختار 83% من سكان الأرض أنهم ينتمون لدين معين.
ومع أن الالتزام الديني هو سلسلة من القيم والأخلاقيات التي تنعكس إيجابياً في حياة الملتزم، ولكن لا بد من الاعتراف أيضاً أن هذا الالتزام حين يقوده التطرف فإنه يتحول إلى صدام مع الحياة وتحقير للحضارة وريبة بالإنسان، وسيغدو من الممكن أن يدفع بالناقم على الحياة إلى ازدراء الحضارة الإنسانية ومن ثم إلى العمل العنيف.
وفي الخطاب الديني السائد في بلادنا فإنه يتم توليد الفكرة عبر خطاب انفعالي يمارسه الوعاظ بانتظام، وهو ينشأ من فكرة مفهومة وسائدة وهي المقارنة بين الدنيا والآخرة والتي تنتهي دوماً بفضل الآخرة على الدنيا، ولا نزاع في ذلك فالآخرة دار الله وفيها أنبياؤه ورسله وملائكته، والدنيا دار زوال، وللآخرة خير لك من الأولى، ولكن هذه المفاضلة تتحول تلقائياً إلى تحقير الدنيا كلها في عين الراغب بالجنة، وتشمل الدنيا الحقيرة الملعونة هنا كل إنجازات البشر في العلوم والاقتصاد والصحة والسلام، وكل المشهد الحضاري بين طوكيو ولوس انجلوس، وبين مونتريال وسدني بما فيها من جامعات ومشافي وأبراج ومصانع، ويمضي الوعظ التقليدي المنتشر في آلاف المساجد إلى الإصرار على التعبير عن الدنيا بأنها حقيرة ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله، وأنها دار الفناء وأنها سجن المؤمن وأنها دار البلاء والشقاء والزور، وأنها دنس ورجس، والدنيا جيفة وطلابها كلابها، وأنها متاع الغرور، وذهب بعض الفقهاء في تأويل هذا المصطلح القرآني تأويلاً غريباً لا يحمل ذرة من الأخلاق وهو أن متاع الغرور هو خرقة الحيض!.
بالطبع لا يمكن لقناعة كهذه أن تبني أوطاناً ولا تسعد إنساناً، وستحول الناس في المجتمع إلى ناقمين على الحياة لعّانين لأهلها ينتظرون الكوارث فيهم لتظهر قوة الله وبطش الله وانتقام الله.
وفي هذا السياق سمعنا خلال العامين الماضيين على منصات التوجيه الديني أشد أنواع الشماتة بالبشر، وتم تقديم فيروس كورونا على أنه ملاك يؤدي رسالة من الله فينتقم من أعدائه ويسلم أولياءه، وحين بطش الفيروس بالمؤمنين والملحدين جميعاً وبالمسجد والكنيسة جميعاً، وأغلق الحرم الشريف راح خطاب الكراهية يلتمس معاذير أخرى فقرر أن البلاء ينزل بالطائعين على سبيل الطهرة وزيادة الدرجات في حين أنه ينزل بالأشرار انتقاماً وبطشاً إلهياً خالصاً.
ولم يكن شأن الشماتة بالكافرين شأن الخطاب الإسلامي وحده، فقد نقلت الميديا خطباً غاضبة لكهنة مسيحيين يعتبرون كورونا غضب الرب ضد العصاة الذين لا يؤمنون بنعمة الرب ولا يتعمدون بمائه، وبالمثل نفسه اعتبره اللاهوت اليهودي غضب الرب على المعاندين من صلبي الرقبة الذين يتبعون الدجالين من الأنبياء الكذبة، وقد خجل الجميع حين رأوا أن كورونا جند من جند الله تحكمه سنن الفيزياء الصارمة، وهو لا يصيب أحداً بذنب ولا يرتد عن أحد بطاعة، وإنما يصيب الذين لا يحترزون ولا يتباعدون ويسلم منه الذين يتلقحون مهما كانت أديانهم وتقواهم وطاعاتهم.
ولكن أشد قواعد الاستهتار بالحياة وتبرير القتل العابث يتم استيرادها من رواية بالغة الخطورة تنسب إلى النبي الكريم أنه بشر بخسف عارم وخراب شامل قادم، قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم النساء والأطفال ومن ليس منهم؟ فقال: يبعثون على نياتهم!.
وهذه العبارة (يبعثون على نياتهم) يتم الترويج لها بأكبر قدر من الهيبة والرهبة، وهي ذائعة الصيت في المجموعات الانتحارية، والمقصود أن أولئك الذين تأخذهم عصا الموت العابث وهم بدون ذنب، سرعان ما يقدمون على الله فيبعثهم على نياتهم، فإن كان محسناً فخير تقدمونه إليه، وإن كان مسيئاً فشر ترفعونه عن الأرض.
وهكذا فإن الانتحاري لا يندم لقتل الأبرياء، ولو كان فيهم أبوه وأمه، وخاله وعمه، وغاية ما قام به الانتحاري هو أنه عجل المصائر المرحومة والملعونة، فإن كانوا أبراراً فقد عجل لهم الجنة، وإن كانوا أشراراً فقد عجل بهم إلى الجحيم، وأنه أهلك الظالمين ويسر للصالحين سبيل الخلاص من الدنيا المذمومة الملعونة المحتقرة إلى دار العدل والإحسان والحور والنور.
وهكذا يقدم الانتحاري على الموت بلا وخزة ضمير، فهو قد أشرك الناس في مصيره، وهو يخلص الأرض من الأشرار الذين يستحقون عقوبة الموت، كما أنه يساعد الأخيار منهم على الوصول إلى العالم الحقيقي.
ومع أن العبارة الواردة في الحديث يمكن تبريرها بألف سبيل وهي جواب المؤمن في الأقدار القاسية حيث لا عزاء إلا في التماس العدالة في الدار الآخرة، ولكن سائر فرق الجهاديين تعتبرها مدخلاً لصناعة الموت، وتبريراً لقتل الأبرياء، ومساعدة لهم في الوصول السريع إلى الجنة!
لا تقنع هذه السذاجة الماكرة أحداً بالطبع، ولكنها كافية تماماً ليتحرك الدماغ الانتحاري الهائج بدون وخزة من ضمير.
ويكون الحديث عن حقارة الدنيا ووضاعتها أهم بند في صناعة الموت، فلا بد من تحقير الحياة حتى يبدو الهجوم عليها مشروعاً، ولا بد من تقديس الآخرة حتى يبدو ترحيل الناس إليها عملاً مجيداً.
في معركة بدر كان الرسول الكريم يرفع يديه إلى السماء ويناجي ربه، ولم يكن دعاؤه أن يرزق الشهادة، ولا أن يزف المسلمين شهداء إلى الجنة ويزف أعداءهم حطباً لجهنم، لقد كان دعاؤه في جوهره للحياة وليس للموت، وكان ينادي ربه بعبارة: اللهم سلم سلم، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، لقد كان دعاؤه لهم أن يعيشوا لا أن يموتوا، وكان سعيه في الحوار وحقن الدماء يهدف إلى شيء واحد وهو إقناع الناس بالحياة وليس إقناعهم بالموت.
علينا أن نتوقف عن تقديم الإغواء بالموت في سبيل الله، وأن نتوقف عن تحقير الحياة وتسفيه العاملين لمجدها، وأن يعمل المسلم ليكون وجيهاً في الدنيا والآخرة، وأن نعود إلى منطق القرآن الذي يحترم الدارين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأن نعمل وفق إطار الهدف القرآني فآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة (…) وأن نؤسس لخطاب إسلامي عقلاني طافح بالأمل يروج العيش في سبيل الله، والحياة في سبيل الله، والعمل في سبيل الله.
المصدر: نورث برس
- محمد حبش كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.