الأحد 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2021
(إسلام بلا عنف)، هو عنوان صادم بكل تأكيد، أو هو الطوباويات والأحلام السعيدة، حين نريد أن نهرب من أقدارنا البائسة، فالعنف والموت والقهر، دأب قابيل مذ أصبح في العالم سعار وذهب، وقد دفع هابيل حياته ثمناً لأطماع قابيل، وقد يكون العالم كله اليوم من نسل قابيل، إذ لم ينجب هابيل ولداً، وقد أعاد الإنسان تشكيل الوعي القابيلي بمنطق دارويني أعاد لصق الإنسان بزملائه البيولوجيين في الطبيعة، بحيث يمضي في سياق صراع البقاء الذي لا ينتهي، حوتاً أو سمكة، ذئباً أو حملاً، أفعى أو حمامة، يأكل أو يؤكل، يقتل أو يقتل، ولا داعي للدهش في ما يشعله من حروب ويسحقه من جثث فهذا سياق الطبيعة، وإن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر!!
فهل قدر ابن آدم أن يمضي بين ركام المظالم على أشلاء أخيه الإنسان؟
يصر كاتب هذه السطور أن لا خلاص لهذا الشرق إلا برسالة الرحمة والغفران التي أعلنها الرسول الكريم، وهي التي وجدت في عصرنا تطبيقها بدقة بروح من غاندي، الذي حمل آمالهم في الحرية والخلاص، على أساس من المقاومة الصارمة، والشجاعة النادرة التي لا تعرف الدم ولا العنف، ولكنها تؤصل لحرية الإنسان وكرامته، وقدمت للشعوب نعمة الحياة على مركب الديمقراطية والحرية، والنضال السلمي والذي هو الهدف الأسمى للأنبياء، وأنه أعظم أوامر الله لابن آدم.
اللاعنف كلمة ساحرة لها في كل أرض في العالم أتباعها وأنبياؤها وقديسوها، ولكنها هنا مطاردة في الشرق، حيث تعامل على أنها فكرة خيالية حالمة، ويراها بعضهم استخذاء وخواناً بالمجان، ويراها آخرون مناقضة للحدود والجهاد، وأن الإسلام يتجه إلى منطق السن بالسن والعين بالعين، وأن القتل أنفى للقتل، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون، وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، وإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، تقاتلونهم أو يسلمون!!.
ليس لدي أدنى شك في أن مقاصد الإسلام الكبرى تتجه إلى رسالة الجهاد ولكنني مصر أن ثقافة اللاعنف هي أيضاً ثقافة قرآنية كريمة، وأن الجهاد الذي أفهمه لا يعني الاستهتار بدم الناس، ولا بسط السيف على رقاب المخالفين، بقدر ما يعني توفير مؤسسة قادرة على حماية الأمة والمجتمع من أطماع الطامعين.
واللاعنف أيضاً مسألة نصية عبر عنها القرآن في أكثر من نص صريح، وقد سبق المعلم جودت سعيد إلى التنبيه إلى هذا المعنى حين كتب رسالته الأولى مذهب ابن آدم الأول، وجعل عنوان كتابه “مذهب ابن آدم الأول” الذي اختار اللاعنف موقفاً حميداً رشيداً أوقف نزعة الدم والثأر وأقام إرادة الحياة.
واللاعنف هو صورة المجتمع الإسلامي في كفاحه الطويل في مكة، حين كانت آيات الله تترى: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون.
وليست هذه الثقافة بعيدة عن هدي الرسول الكريم الذي كان واضحاً في إعلانه موقفاً فريداً من اللاعنف الإسلامي حين سأله حذيفة بوضوح: أرأيت إن دخل علي داري وأرادني على نفسي ومالي؟؟ قال: كن كخير ابني آدم، وحين أوغل في بيان مراده بحيث لا يحتمله لبس ولا غموض: فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك، وفي رواية: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل.
لقد كتب المعلم جودت سعيد في الإشارة إلى هذا التناقض:
“لم أر من فكر من المسلمين بجدية في قول الله تعالى: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. ولم يقف عند هذا بل قال الرسول (ص) لصاحبه الذي تحدث إليه بهذا فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبؤ بإثمك وإثمه”.
إن الأنبياء قالوا بوضوح في وجه أقوامهم: ولنصبرن على ما آذيتمونا، وقال النبي الكريم لآل ياسر وهم يسحلون تحت رمال الصحراء: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، وقد كان قادراً أن يشكل خلايا تطهير ثوري، تبعج بطون الظالمين من مشركي مكة بسيف العدل، ولكنه لم يفعل وآثر أن يمضي في رسالته في السلم والمحبة، وهكذا فقد مضى أكثر من نصف عمر الإسلام دون إراقة قطرة دم واحدة، وحين قام سعد بن أبي وقاص برمي بعض المشركين بسهم، لم يقبل منه رسول الله ذلك وقال له: زادك الله حرصاً ولا تعد، وقد كان في موقف الدفاع المشروع، ولكن النبي لم يكن آنئذ سلطة ولا دولة وكان محض مواطن ليس مخولاً بتطبيق القانون، حتى إذا ما تحول إلى المدينة أصبح من مسؤوليته الأخلاقية حماية الناس، وتحقيق الأمن في المدينة.
لقد انتشرت الأديان بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس في تاريخ نشر المسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية صراعات ولا حروب ولا عنف، وقد دخل فيها المليارات، والإسلام في قناعتي كذلك، رسالته الحكمة والموعظة الحسنة، ولم تكن الحرب إلا ضرورات تقدر بقدرها، قام بها رسول الله مضطراً للدفاع عن نفسه وأصحابه، وفي هذا السياق نعد المعارك الخمسة الوحيدة: بدر وأحد وخيبر وحنين وقريظة في أعقاب الخندق، وهي أيام العنف الوحيدة التي وقعت في حياة الرسول (وليس الثمانية والعشرين) كما يصورها بعض كتاب السير، فلا وجود في تاريخ النبوة لأيام عنف إلا الخمسة المشهورة وباقي الأيام هي مواجهات بلا عنف أو مصالحات أو زيارات وحج وعمرة.
ولكن لا يمكن الدفاع عن الحروب التي أعقبت ذلك بأنها في سياق الدفاع، فقد تحولت إلى مشاريع هيمنة وتسلط، يحكمها فائض القوة، ولكنني حريص أن أقول هنا إن انتشار الإيمان كان يتم في ساحات أخرى بعيدة تماماً عن فظائع المعارك.
لا تشرف حروب الفاتكين تاريخ الإسلام كديانة ونبوة وارتقاء روح، كما لا تشرف الحروب الصليبية تاريخ المسيحية، ولا الحروب الصهيونية تاريخ اليهودية، فقد تم استغلال الدين في تبرير العنف باستمرار، وهو العنف الذي ربطته السياسة بالدين وصار قتالاً لإدخال الناس في الدين بدلاً من كونه قتالاً لنيل الحرية الدينية.
لا يمكن لكلمات كهذه أن تحسم جدلاً كهذا، وسيكون في قبالة كل دليل دليل، وقد تلمع بوارق الحقيقة من خلال تناقض الأفكار، وأنا لا أطمع هنا أن أحسم جدل العنف في المجتمع الإسلامي، ولكن قد نضيء بعض جوانب مظلمة فنكتشف بعض ما طمسناه عن عمد في غبار الصراع، حتى غاب تأويله، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
كل ما تريد هذه الكلمات أن تقوله إن الإسلام رسالة محبة وتسامح، ولا يكون فيها العنف إلا في الدفاع عن النفس، هي ضرورة تقدر بقدرها، وكل تفكير في نشر الإسلام بالقوة، أو الارتزاق في بلاد مختلفة بدعوى الدفاع عن الدين أو إرغام الناس عليه فهو محض قتال بائس وارتزاق رخيص يبحث عن تبرير من المقدس، وهو إلى سبيل الشيطان أقرب منه إلى سبيل الرحمن.
المصدر: نورث برس
- محمد حبش كاتب سوري
سوريا اليوم. أخبار سوريا. أخبار سوريا اليوم. سورية اليوم. أخبار سورية. أخبار سورية اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم. أخبار اليوم سوريا. أخبار اليوم سورية.